صفحة جزء
( فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) .

ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال : ( فهو في عيشة راضية ) وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : وصف العيشة بأنها راضية فيه وجهان :

الأول : المعنى أنها منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل ، والنسبة نسبتان ؛ نسبة بالحروف ونسبة بالصيغة .

والثاني : أنه جعل الرضا للعيشة مجازا مع أنه صاحب العيشة .

المسألة الثانية : ذكروا في حد الثواب أنه لا بد وأن يكون منفعة ، ولا بد وأن تكون خالصة عن الشوائب ، ولا بد وأن تكون دائمة, ولا بد وأن تكون مقرونة بالتعظيم ، فالمعنى إنما يكون مرضيا به من جميع الجهات لو كان مشتملا على هذه الصفات, فقوله : ( عيشة راضية ) كلمة حاوية لمجموع هذه الشرائط التي ذكرناها .

ثم قال : ( في جنة عالية ) وهو أن من صار في ( عيشة راضية ) أي : يعيش عيشا مرضيا في جنة عالية ، والعلو إن أريد به العلو في المكان فهو حاصل ؛ لأن الجنة فوق السماوات ، فإن قيل : أليس أن منازل البعض فوق منازل الآخرين ، فهؤلاء السافلون لا يكونون في الجنة العالية ، قلنا : إن كون بعضها دون بعض لا يقدح في كونها عالية وفوق السماوات ، وإن أريد العلو في الدرجة والشرف فالأمر كذلك ، وإن أريد به كون تلك الأبنية عالية مشرفة فالأمر أيضا كذلك .

ثم قال : ( قطوفها دانية ) أي : ثمارها قريبة التناول, يأخذها الرجل كما يريد إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له ، قائما كان أو جالسا أو مضطجعا . وإن أحب أن تدنو إلى فيه دنت ، والقطوف جمع قطف وهو المقطوف .

ثم قال تعالى : ( كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ) والمعنى يقال لهم ذلك وفيه مسائل :

المسألة الأولى : منهم من قال : قوله : ( كلوا ) ليس بأمر إيجاب ولا ندب ؛ لأن الآخرة ليست دار تكليف ، ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون ندبا ، إذا كان الغرض منه تعظيم ذلك الإنسان وإدخال السرور في قلبه .

المسألة الثانية : إنما جمع الخطاب في قوله : "كلوا" بعد قوله " فهو في عيشة " ؛ لقوله : ( فأما من أوتي ) ومن مضمن معنى الجمع .

[ ص: 100 ] المسألة الثالثة : قوله : ( بما أسلفتم ) أي : قدمتم من أعمالكم الصالحة ، ومعنى الإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير, فهو كالإقراض . ومنه يقال : أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله ، والمعنى بما عملتم من الأعمال الصالحة . و ( الأيام الخالية ) ، المراد منها أيام الدنيا , والخالية الماضية ، ومنه قوله : ( وقد خلت القرون من قبلي ) [الأحقاف : 17] و ( تلك أمة قد خلت ) [البقرة : 134] وقال الكلبي : ( بما أسلفتم ) يعني الصوم ، وذلك أنهم لما أمروا بالأكل والشرب ، دل ذلك على أنه لمن امتنع في الدنيا عنه بالصوم ؛ طاعة لله تعالى .

المسألة الرابعة : قوله : ( بما أسلفتم ) يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بسبب عملهم ، وذلك يدل على أن العمل موجب للثواب ، وأيضا لو كانت الطاعات لله تعالى لكان قد أعطى الإنسان ثوابا لا على فعل فعله الإنسان ، وذلك محال وجوابه معلوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية