صفحة جزء
( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) .

قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) وههنا مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) [النبأ : 38] وهذا يقتضي أن الروح أعظم [من] الملائكة قدرا ، ثم ههنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج [ ص: 109 ] الملائكة أولا والروح ثانيا ، كما في هذه الآية ، وذكر عند القيام الروح أولا والملائكة ثانيا ، كما في قوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) وهذا يقتضي كون الروح أولا في درجة النزول وآخرا في درجة الصعود ، وعند هذا قال بعض المكاشفين : إن الروح نور عظيم هو أقرب الأنوار إلى جلال الله ، ومنه تتشعب أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح ، وبين الطرفين معارج مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأنوار القدسية ، ولا يعلم كميتها إلا الله ، وأما ظاهر قول المتكلمين وهو أن الروح هو جبريل عليه السلام فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) .

المسألة الثانية : احتج القائلون بأن الله في مكان ، إما في العرش أو فوقه ، بهذه الآية من وجهين :

الأول : أن الآية دلت على أن الله تعالى موصوف بأنه ذو المعارج وهو إنما يكون كذلك لو كان في جهة فوق .

والثاني : قوله : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) فبين أن عروج الملائكة وصعودهم إليه ، وذلك يقتضي كونه تعالى في جهة فوق ( والجواب ) لما دلت الدلائل على امتناع كونه في المكان والجهة ثبت أنه لا بد من التأويل ، فأما وصف الله بأنه "ذو المعارج" فقد ذكرنا الوجوه فيه ، وأما حرف إلى في قوله : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) فليس المراد منه المكان, بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله : ( وإليه يرجع الأمر كله ) [هود : 123] المراد الانتهاء إلى موضع العز والكرامة كقوله : ( إني ذاهب إلى ربي ) [الصافات : 99] ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها .

المسألة الثالثة : الأكثرون على أن قوله : ( في يوم ) من صلة تعرج ، أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم ، وقال مقاتل : بل هذا من صلة قوله : ( بعذاب واقع ) وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير, والتقدير : سأل سائل بعذاب واقع ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . وعلى التقدير الأول ، فذلك اليوم إما أن يكون في الآخرة أو في الدنيا ، وعلى تقدير أن يكون في الآخرة ، فذلك الطول إما أن يكون واقعا ، وإما أن يكون مقدرا فهذه هي الوجوه التي تحملها هذه الآية ، ونحن نذكر تفصيلها .

القول الأول : هو أن معنى الآية أن ذلك العروج يقع في يوم من أيام الآخرة ؛ طوله خمسون ألف سنة ، وهو يوم القيامة ، وهذا قول الحسن قال : وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط ، إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ولفنيت الجنة والنار عند تلك الغاية وهذا غير جائز ، بل المراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس ، خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ثم بعد ذلك يستقر أهل النار في دركات النيران نعوذ بالله منها . واعلم أن هذا الطول إنما يكون في حق الكافر ، أما في حق المؤمن فلا ، والدليل عليه الآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) [الفرقان : 24] واتفقوا على [أن] ذلك [المقيل والمستقر] هو الجنة, وأما الخبر فما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما طول هذا اليوم ؟ فقال : "والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " ومن الناس من قال : إن ذلك الموقف وإن طال فهو يكون سببا لمزيد السرور والراحة لأهل الجنة ، ويكون سببا لمزيد الحزن والغم لأهل النار . ( الجواب ) عنه أن الآخرة دار جزاء ، فلا بد من أن يعجل للمثابين ثوابهم ، ودار الثواب هي الجنة لا الموقف ، فإذن لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار .

القول الثاني : هو أن هذه المدة واقعة في الآخرة ، لكن على سبيل التقدير لا على سبيل التحقق ، والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء [ ص: 110 ] والحكومة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة, ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، وأيضا الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة, ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة قليلة ، وهذا قول وهب وجماعة من المفسرين .

القول الثالث وهو قول أبي مسلم : إن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء ، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم ، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة ، ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوما ؛ لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي .

القول الرابع : تقدير الآية : سأل سائل بعذاب واقع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار ، ويحتمل أن يكون المراد تقدير مدته ، وعلى هذا فليس المراد تقدير العذاب بهذا المقدار ، بل المراد التنبيه على طول مدة العذاب ، ويحتمل أيضا أن العذاب الذي سأله ذلك السائل يكون مقدرا بهذه المدة ، ثم إنه تعالى ينقله إلى نوع آخر من العذاب بعد ذلك ، فإن قيل روى ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية ، وعن قوله : ( في يوم كان مقداره ألف سنة ) [السجدة : 5] فقال : أيام سماها الله تعالى هو أعلم بها كيف تكون ، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم ، فإن قيل : فما قولكم في التوفيق بين هاتين الآيتين ؟ قلنا : قال وهب في الجواب عن هذا : ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة, ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة ؛ لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى ، فقوله تعالى : ( في يوم ) يريد من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ، ومقدار ألف سنة لو صعدوا إلى أعالي العرش .

التالي السابق


الخدمات العلمية