صفحة جزء
( تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى إن الإنسان خلق هلوعا ) .

قوله تعالى : ( تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى ) فيه مسألتان :

المسألة الأولى : اختلفوا في أن لظى كيف تدعو الكافر ، فذكروا وجوها :

أحدها : أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل : سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ؟ فإن لم تجبك جؤارا ، أجابتك اعتبارا . فههنا لما كان مرجع كل واحد من الكفار إلى زاوية من زوايا جهنم ، كأن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم .

وثانيها : أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا : إلي يا كافر ، إلي يا منافق ، ثم تلتقطهم التقاط الحب .

وثالثها : المراد أن زبانية النار يدعون فأضيف ذلك الدعاء إلى النار بحذف المضاف .

ورابعها : تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله أي أهلكك ، وقوله : ( من أدبر وتولى ) يعني من أدبر عن الطاعة وتولى عن الإيمان ( وجمع ) المال ( فأوعى ) أي : جعله في وعاء وكنزه ، ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيها فقوله : ( أدبر وتولى ) إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله وطاعته ، وقوله : ( وجمع فأوعى ) إشارة إلى حب الدنيا ، فجمع إشارة إلى الحرص ، وأوعى إشارة إلى الأمل ، ولا شك أن مجامع آفات الدين ليست إلا هذه .

قوله تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعا ) فيه مسائل :

المسألة الأولى : قال بعضهم : المراد بالإنسان ههنا الكافر ، وقال آخرون : بل هو على عمومه ، بدليل أنه استثنى منه إلا المصلين .

[ ص: 114 ] المسألة الثانية : يقال هلع الرجل يهلع هلعا وهلاعا فهو هالع وهلوع ، وهو شدة الحرص وقلة الصبر ، يقال : جاع فهلع ، وقال الفراء : الهلوع الضجور ، وقال المبرد : الهلع الضجر ، يقال : نعوذ بالله من الهلع عند منازلة الأقران ، وعن أحمد بن يحيى ، قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع ؟ فقلت : قد فسره الله ، ولا تفسير أبين من تفسيره ، هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل ومنعه الناس .

المسألة الثالثة : قال القاضي قوله تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعا ) نظير لقوله : ( خلق الإنسان من عجل ) [الأنبياء : 37] وليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف ، والدليل عليه أن الله تعالى ذمه عليه والله تعالى لا يذم فعله ، ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة المذمومة ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها . واعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين :

أحدهما : الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع .

والثاني : تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية ، أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنها تحدث بخلق الله تعالى ؛ لأن من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه ، ومن خلق شجاعا بطلا لا يمكنه إزالة تلك الحالة عن نفسه بل الأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية ، أما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية