صفحة جزء
( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) .

ذكروا في تفسير الثقيل وجوها :

أحدها : وهو المختار عندي أن المراد من كونه ثقيلا عظم قدره وجلالة خطره ، وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقل وثقيل وثاقل ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء : ( قولا ثقيلا ) يعني كلاما عظيما ، ووجه النظم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل ، فكأنه قال : إنما أمرتك بصلاة الليل ؛ لأنا سنلقي عليك قولا عظيما ، فلا بد وأن تسعى في صيرورة نفسك مستعدة لذلك القول العظيم ، ولا يحصل ذلك الاستعداد إلا بصلاة الليل ، فإن الإنسان في الليلة الظلماء إذا اشتغل بعبادة الله تعالى وأقبل على ذكره ، والثناء عليه ، والتضرع بين يديه ، ولم يكن هناك شيء من الشواغل الحسية ، والعوائق الجسمانية استعدت النفس هنالك لإشراق جلال الله فيها ، وتهيأت للتجرد التام ، والانكشاف الأعظم بحسب الطاقة البشرية ، فلما كان لصلاة الليل أثر في صيرورة النفس مستعدة لهذا المعنى ، لا جرم قال : إني إنما أمرتك بصلاة الليل ؛ لأنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ، فصير نفسك مستعدة لقبول ذلك المعنى ، وتمام هذا المعنى ما قال عليه الصلاة والسلام : "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" .

وثانيها : قالوا : المراد بالقول الثقيل ، القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين عامة ، وعلى رسول الله خاصة ؛ لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته ، وحاصله أن ثقله راجع إلى ثقل العمل به ، فإنه لا معنى للتكليف إلا إلزام ما في فعله كلفة ومشقة .

وثالثها : روي عن الحسن : أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة ، وهو إشارة إلى كثرة منافعه ، وكثرة الثواب في العمل به .

ورابعها : المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يثقل عند نزول الوحي إليه ، روي أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها ، حتى وضعت جراءها ، فلم تستطع أن تتحرك .

وعن ابن عباس : كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد وجهه ، وعن عائشة رضي الله عنها : " رأيته ينزل عليه الوحي ، في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإن جبينه ليرفض عرقا " .

وخامسها : قال الفراء : قولا ثقيلا ، أي ليس بالخفيف ولا بالسفساف ؛ لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى .

وسادسها : قال الزجاج : معناه أنه قول متين في صحته وبيانه ونفعه ، كما تقول : هذا كلام رزين ، وهذا قول له وزن إذا كنت تستجيده ، وتعلم أنه وقع موقع الحكمة والبيان .

وسابعها : قال أبو علي الفارسي : إنه ثقيل على المنافقين ، من حيث إنه يهتك أسرارهم ، ومن حيث إنه يبطل أديانهم وأقوالهم .

وثامنها : أن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه ولا يزول ، فجعل الثقيل كناية عن بقاء القرآن ، على وجه الدهر ، كما قال : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر : 9] .

وتاسعها : أنه ثقيل ، بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته ، والفقهاء أقبلوا على البحث عن أحكامه ، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني ، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه فوائد ما وصل إليها المتقدمون ، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله ، فصار كالحمل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله .

وعاشرها : أنه ثقيل ؛ لكونه مشتملا على المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون ، المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية ، فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق .

التالي السابق


الخدمات العلمية