1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم
صفحة جزء
المسألة الخامسة : النسخ عندنا جائز عقلا واقع سمعا خلافا لليهود ، فإن منهم من أنكره عقلا ، ومنهم من جوزه عقلا ، لكنه منع منه سمعا ، ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ ، واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ؛ لأن الدلائل دلت على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنسخ ، وأيضا قلنا : على اليهود إلزامان :

الأول : جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك : " إني جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه " ، ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان .

الثاني : كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام .

قال منكرو النسخ : لا نسلم أن نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - لا تصح إلا مع القول بالنسخ ؛ لأن من الجائز أن يقال : إن موسى وعيسى - عليهما السلام - أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - فعند ظهور شرع محمد - عليه الصلاة والسلام - زال التكليف بشرعهما ، وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام ، لكنه لا يكون ذلك نسخا ، بل جاريا مجرى قوله : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] ، والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ أصلا بنوا مذهبهم على هذا الحرف ، وقالوا : قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى - عليهما السلام - قد بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ، وأن عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ ، وهذا هو الاعتراض على الإلزامين المذكورين ، واحتج منكرو النسخ بأن قالوا : إن الله تعالى لما بين شرع عيسى عليه السلام ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة إما أن يقال : إنها دالة على دوامها أو لا على دوامها ، أو ما كان فيها دلالة على الدوام ولا على اللادوام ، فإن بين فيها ثبوتها على الدوام ، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذبا ، وإنه غير جائز على الشرع ، وأيضا فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا ؛ لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع : هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط ألبتة ، ولكنا إذا رأينا مثل هذا الكلام حاصلا في شرع موسى وعيسى عليهما السلام مع أنهما لم يدوما ، زال الوثوق عنه في كل الصور . فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : ذكر اللفظ الدال على الدوام ، ثم قرن به ما يدل على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نص على ذلك إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة ؟ قلنا : هذا ضعيف لوجوه :

[ ص: 207 ] أحدها : أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين ، وإنه سفه وعبث .

وثانيها : على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخا ، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضا ، لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضا ، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر فيها الدواعي على نقله ، وما كان كذلك وجب اشتهاره وبلوغه إلى حد التواتر ، وإلا فلعل القرآن عورض ، ولم تنقل معارضته ، ولعل محمدا - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل ، وإذا ثبت وجوب أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر ، فنقول : لو أن الله تعالى نص في زمان موسى وعيسى - عليهما السلام - على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهورا لأهل التواتر ، ومعلوما لهم بالضرورة ، ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه ، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين .

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه السلام ، وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم . فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوما بالضرورة لأهل التواتر ، وأيضا فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخا ، بل يكون ذلك انتهاء للغاية .

وأما القسم الثالث : وهو أنه تعالى نص على شرع موسى عليه السلام ، ولم يبين فيه كونه دائما ، أو كونه غير دائم ، فنقول : قد ثبت في أصول الفقه أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار ، وإنما يفيد المرة الواحدة ، فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة فقد خرج عن عهدة الأمر ، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخا للأمر الأول ، فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال .

واعلم أنا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، والاستدلال به أيضا ضعيف ؛ لأن " ما " ههنا تفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك : ومن جاءك فأكرمه - لا يدل على حصول المجيء ، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه ، فالأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) [ النحل : 101 ] وقوله : ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) [ الرعد : 39 ] والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية