صفحة جزء
( وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر ) .

قوله تعالى : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) فيه وجوه :

أحدها : وهو الأولى أن القوم استقبلوا ذلك العدد ، فقال تعالى : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) فهب أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد منهم من الأعوان والجنود ما لا يعلم عددهم إلا الله .

وثانيها : وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو ، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ، ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق وهو جل جلاله يعلمها .

وثالثها : أنه لا حاجة بالله سبحانه في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة ، فإنه هو الذي يعذبهم في الحقيقة ، وهو الذي يخلق الآلام فيهم ، ولو أنه تعالى قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة ، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلة العذاب ، فجنود الله غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية .

قوله تعالى : ( وما هي إلا ذكرى للبشر ) الضمير في قوله ( وما هي ) إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان :

الأول : أنه عائد إلى " سقر " ، والمعنى : وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر .

والثاني : أنه عائد إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات ، وهي ذكرى لجميع العالمين ، وإن كان المنتفع بها ليس إلا أهل الإيمان .

ثم قال تعالى : ( كلا ) وفيه وجوه :

أحدها : أنه إنكار بعد أن جعلها ذكرى ، أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون .

وثانيها : أنه ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا .

وثالثها : أنه ردع لقول أبي جهل وأصحابه : إنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار .

ورابعها : أنه ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة .

ثم قال تعالى : ( والقمر والليل إذ أدبر ) وفيه قولان :

الأول : قال الفراء والزجاج : دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل ، ويدل على هذا قراءة من قرأ " إذا دبر " وروي أن مجاهدا سأل ابن عباس عن قوله " دبر " فسكت حتى إذا أدبر الليل قال : يا مجاهد هذا حين دبر الليل ، وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب هذه [ ص: 184 ] القراءة ، ويقول : إنما يدبر ظهر البعير ، قال الواحدي : والقراءتان عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا ، وأنشد أبو علي :


وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم بصهاب هامدة كأمس الدابر



القول الثاني : قال أبو عبيدة وابن قتيبة : دبر أي جاء بعد النهار ، يقال : دبرني أي جاء خلفي ، ودبر الليل أي جاء بعد النهار ، قال قطرب : فعلى هذا معنى إذا دبر إذا أقبل بعد مضي النهار .

التالي السابق


الخدمات العلمية