صفحة جزء
( ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا )

واعلم أنه تعالى لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف بعد ذلك شرابهم ، وقدم عليه وصف تلك الأواني التي فيها يشربون ، فقال : ( ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا ) في الآية سؤالات :

السؤال الأول : قال تعالى : ( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب ) [ الزخرف : 71 ] ، والصحاف هي القصاع ، والغالب فيها الأكل ، فإذا كان ما يأكلون فيه ذهبا ، فما يشربون فيه أولى أن يكون ذهبا ؛ لأن العادة أن يتنوق في إناء الشرب ما لا يتنوق في إناء الأكل ، وإذا دلت هذه الآية على أن إناء شربهم يكون من الذهب ، فكيف ذكر ههنا أنه من الفضة ، ( والجواب ) : أنه لا منافاة بين الأمرين ، فتارة يسقون بهذا ، وتارة بذاك .

السؤال الثاني : ما الفرق بين الآنية والأكواب ؟ ( الجواب ) : قال أهل اللغة : الأكواب : الكيزان التي لا عرى لها ، فيحتمل أن يكون على معنى أن الإناء يقع فيه الشرب كالقدح ، والكوب ما صب منه في الإناء كالإبريق .

السؤال الثالث : ما معنى " كانت " ؟ ( الجواب ) : هو من " يكون " في قوله : ( كن فيكون ) [ النحل : 40 ] أي تكونت قوارير بتكوين الله ؛ تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين .

السؤال الرابع : كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير ؟ ( الجواب ) عنه من وجوه :

أحدها : أن أصل القوارير في الدنيا الرمل ، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة ، فكما أن الله تعالى قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية ، فكذلك هو قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة ، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا ، فكما أنه لا نسبة بين [ ص: 221 ] هذين الأصلين ، فكذا بين القارورتين في الصفاء واللطافة .

وثانيها : قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ، وإذا كان كذلك فكمال الفضة في بقائها ونقائها وشرفها إلا أنه كثيف الجوهر ، وكمال القارورة في شفافيتها وصفائها إلا أنه سريع الانكسار ، فآنية الجنة آنية يحصل فيها من الفضة بقاؤها ونقاؤها وشرف جوهرها ، ومن القارورة صفاؤها وشفافيتها .

وثالثها : أنها تكون فضة ولكن لها صفاء القارورة ، ولا يستبعد من قدرة الله تعالى الجمع بين هذين الوصفين .

ورابعها : أن المراد بالقوارير في الآية ليس هو الزجاج ؛ فإن العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة ورق وصفا قارورة ، فمعنى الآية : وأكواب من فضة مستديرة صافية رقيقة .

السؤال الخامس : كيف القراءة في ( قواريرا قوارير ) ؟ ( الجواب ) قرئا غير منونين ، وبتنوين الأول ، وبتنوينهما ، وهذا التنوين بدل عن ألف الإطلاق ؛ لأنه فاصلة ، وفي الثاني لإتباعه الأول ؛ لأن الثاني بدل من الأول ، فيتبع البدل المبدل ، وقرئ : " قوارير من فضة " بالرفع على : هي قوارير . و " قدروها " صفة لـ " قوارير من فضة " .

أما قوله تعالى : ( قدروها تقديرا ) ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال المفسرون : معناه ( قدروها تقديرا ) على قدر ريهم ، لا يزيد ولا ينقص من الري ؛ ليكون ألذ لشربهم ، وقال الربيع بن أنس : إن تلك الأواني تكون بمقدار ملء الكف ، لم تعظم فيثقل حملها .

المسألة الثانية : أن منتهى مراد الرجل في الآنية التي يشرب منها الصفاء والنقاء والشكل ، أما الصفاء فقد ذكره الله تعالى بقوله : ( كانت قوارير ) وأما النقاء فقد ذكره بقوله : ( من فضة ) ، وأما الشكل فقد ذكره بقوله : ( قدروها تقديرا ) .

المسألة الثالثة : المقدر لهذا التقدير من هو ؟ فيه قولان :

الأول : أنهم هم الطائفون الذين دل عليهم قوله تعالى : ( ويطاف عليهم ) ، وذلك أنهم قدروا شرابها على قدر ري الشارب .

والثاني : أنهم هم الشاربون ، وذلك لأنهم إذا اشتهوا مقدارا من المشروب جاءهم على ذلك القدر .

التالي السابق


الخدمات العلمية