صفحة جزء
( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا )

قوله : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا )

اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) [ الإنسان : 1 ] ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج ، والمراد منه إما كونه مخلوقا من العناصر الأربعة ، أو من الأخلاط الأربعة ، أو من ماء الرجل والمرأة ، أو من الأعضاء والأرواح ، أو من البدن [ ص: 227 ] والنفس ، أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم ، مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ، وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية ، فلذلك يدل على أنه لا بد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه .

ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعا عاطلا باطلا ، بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان ، وإليه الإشارة بقوله : ( نبتليه ) [ الإنسان : 2 ] وههنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر ، ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان ، وهو السمع والبصر والعقل ، وإليه الإشارة بقوله : ( فجعلناه سميعا بصيرا ) [ الإنسان : 2 ] ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر ، فقال : ( إنا هديناه السبيل ) [ الإنسان : 3 ] ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين ؛ منهم شاكر ، ومنهم كفور ، وهذا الانقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية ، أو من الله على ما هو تأويل الجبرية ، ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار ، ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء ، وهو إلى قوله : ( وكان سعيكم مشكورا ) .

واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب الرحمة أغلب وأقوى ، فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة ، ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا ، وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين ، أما المطيعون فهم الرسول وأمته ، والرسول هو الرأس والرئيس ، فلهذا خص الرسول بالخطاب .

واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر ، ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر ، قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة الغم والوحشة عن خاطره ، وإنما فعل ذلك لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ، ثم بعد هذه المقدمة ذكر نهيه عن بعض الأشياء ، ثم بعد الفراغ عن النهي ذكر أمره ببعض الأشياء ، وإنما قدم النهي على الأمر لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع ، وإزالة ما لا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي ، ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه ، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام ، فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار ، وله الشكر عليه أبد الآباد .

ولنرجع إلى التفسير فنقول : أما تلك المقدمة فهي قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ) واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر ، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله ، فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسما ؛ لأن تأكيدا على تأكيد أبلغ ، كأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الكفار يقولون : إن ذلك كهانة ، فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة : إن ذلك وحي حق ، وتنزيل صدق من عندي . وهذا فيه فائدتان :

إحداهما : إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار ؛ فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السماوات عظمه وصدقه .

والثانية : تقويته على تحمل التكليف المستقبل ؛ وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه ، وهو كان يريد مقاتلتهم ، فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة ، وكان ذلك شاقا عليه ، فقال له : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ) فكأنه قال له : إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقا منجما إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال ، فاصبر لحكم ربك [ ص: 228 ] الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل . ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى : ( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا )

التالي السابق


الخدمات العلمية