صفحة جزء
( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )

قوله تعالى : ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )

اعلم أنه تعالى وبخ هؤلاء المطففين فقال : ( ألا يظن أولئك ) الذين يطففون ( أنهم مبعوثون ليوم عظيم ) وهو يوم القيامة ، وفي الظن هاهنا قولان .

الأول : أن المراد منه العلم ، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدقين بالبعث ، ويحتمل أن لا يكونوا كذلك أما ( الاحتمال الأول ) : فهو ما روي أن المسلمين من أهل المدينة وهم الأوس والخزرج كانوا كذلك ، وحين ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك شائعا فيهم ، وكانوا مصدقين بالبعث والنشور ، فلا جرم ذكروا به ، وأما إن قلنا : بأن المخاطبين بهذه الآية ما كانوا مؤمنين بالبعث إلا أنهم كانوا متمكنين من الاستدلال عليه ، لما في العقول من إيصال الجزاء إلى المحسن والمسيء ، أو إمكان ذلك إن لم يثبت وجوبه ، وهذا مما يجوز أن يخاطب به من ينكر البعث ، والمعنى ألا يتفكرون حتى يعلموا أنهم مبعوثون ، لكنهم قد أعرضوا عن التفكر ، وأراحوا أنفسهم عن متاعبه ومشاقه ، وإنما يجعل العلم الاستدلال ظنا ، لأن أكثر العلوم الاستدلالية راجع إلى الأغلب في الرأي ، ولم يكن كالشك الذي يعتدل الوجهان فيه لا جرم سمي ذلك ظنا .

القول الثاني : أن المراد من الظن هاهنا هو الظن نفسه لا العلم ، ويكون المعنى أن هؤلاء المطففين هب أنهم لا يجزمون بالبعث ولكن لا أقل من الظن ، فإن الأليق بحكمة الله ورحمته ورعايته مصالح خلقه أن لا يهمل أمرهم بعد الموت بالكلية ، وأن يكون لهم حشر ونشر ، وأن هذا الظن كاف في حصول الخوف ، كأنه سبحانه وتعالى يقول : هب أن هؤلاء لا يقطعون به أفلا يظنونه أيضا ، فأما قوله تعالى : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قرئ " يوم " بالنصب والجر ، أما النصب فقال الزجاج : يوم منصوب بقوله [ ص: 83 ] ( مبعوثون ) والمعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة ، وقال الفراء : وقد يكون في موضع خفض إلا أنه أضيف إلى يفعل فنصب ، وهذا كما ذكرنا في قوله : ( يوم لا تملك ) وأما الجر فلكونه بدلا من ( يوم عظيم ) .

المسألة الثانية : هذا القيام له صفات :

الصفة الأولى : سببه وفيه وجوه :

أحدها : وهو الأصح أن الناس يقومون لمحاسبة رب العالمين ، فيظهر هناك هذا التطفيف الذي يظن أنه حقير ، فيعرف هناك كثرته واجتماعه ، ويقرب منه قوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن : 46 ] .

وثانيها : أنه سبحانه يرد الأرواح إلى أجسادها فتقوم تلك الأجساد من مراقدها ، فذاك هو المراد من قوله : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) .

وثالثها : قال أبو مسلم معنى : " يقوم الناس " هو كقوله : ( وقوموا لله قانتين ) [ البقرة : 238 ] أي لعبادته فقوله : ( يقوم الناس لرب العالمين ) أي لمحض أمره وطاعته لا لشيء آخر ، على ما قرره في قوله : ( والأمر يومئذ لله ) [ الانفطار : 19 ] .

الصفة الثانية : كيفية ذلك القيام ، روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) قال : " يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " وعن ابن عمر : أنه قرأ هذه السورة ، فلما بلغ قوله : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) بكى نحيبا حتى عجز عن قراءة ما بعده " .

الصفة الثالثة : كمية ذلك القيام ، روي عنه عليه السلام أنه قال : " يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر " وعن ابن مسعود : " يمكثون أربعين عاما ثم يخاطبون " وقال ابن عباس : وهو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة .

واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعا من التهديد ، فقال أولا : ( ويل للمطففين ) وهذه الكلمة تذكر عند نزول البلاء ، ثم قال ثانيا : ( ألا يظن أولئك ) وهو استفهام بمعنى الإنكار ، ثم قال ثالثا : ( ليوم عظيم ) والشيء الذي يستعظمه الله لا شك أنه في غاية العظمة ، ثم قال رابعا : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) وفيه نوعان من التهديد .

أحدهما : كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والانكسار .

والثاني : أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين .

ثم هاهنا سؤال وهو كأنه قال قائل : كيف يليق بك مع غاية عظمتك أن تهيئ هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيامة لأجل الشيء الحقير الطفيف ؟ فكأنه سبحانه يجيب ، فيقول عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة والعظمة في الحكمة ، فعظمة القدرة ظهرت بكوني ربا للعالمين ، لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن أنتصف للمظلوم من الظالم بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف ، فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم ، فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة ، وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف . وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل ، وفي إظهار العيب وإخفائه ، وفي طلب الإنصاف والانتصاف ، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه ، فليس بمنصف والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة ، والذي يرى عيب الناس ، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة ، ومن طلب حق نفسه من الناس ، ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه ، فهو من هذه الجملة والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية