صفحة جزء
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )

قوله تعالى : ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )

اعلم أن قوله تعالى : ( إذا السماء انشقت ) إلى قوله : ( ياأيها الإنسان ) شرط ولا بد له من جزاء واختلفوا فيه على وجوه :

أحدها : قال صاحب الكشاف : حذف جواب إذا ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أدخل في التهويل .

وثانيها : قال الفراء : إنما ترك الجواب لأن هذا المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه فعرف ، ونظيره قوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] ترك ذكر القرآن لأن التصريح به قد تقدم في سائر المواضع .

وثالثها : قال بعض المحققين : الجواب هو قوله : ( فملاقيه ) وقوله : ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا ) معترض ، وهو كقول القائل : إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان ترى عند ذلك ما عملت من خير أو شر ، فكذا هاهنا . والتقدير إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله .

ورابعها : أن المعنى محمول على التقديم والتأخير فكأنه قيل : ( ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) ، ( إذا السماء انشقت ) وقامت القيامة .

وخامسها : قال الكسائي : إن الجواب في قوله : ( فأما من أوتي كتابه ) واعترض في الكلام قوله : ( ياأيها الإنسان إنك كادح ) والمعنى إذا السماء انشقت ، وكان كذا وكذا ( فمن أوتي كتابه بيمينه ) فهو كذا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فهو كذا ، ونظيره قوله تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ) [ البقرة : 38 ] .

وسادسها : قال القاضي : إن الجواب ما دل عليه قوله : ( إنك كادح ) كأنه تعالى قال : يا أيها الإنسان ترى ما عملت فاكدح لذلك اليوم أيها الإنسان لتفوز بالنعيم أما قوله : ( ياأيها الإنسان ) ففيه قولان : الأول : أن المراد جنس الناس كما يقال : أيها الرجل ، [ ص: 96 ] وكلكم ذلك الرجل ، فكذا هاهنا . وكأنه خطاب خص به كل واحد من الناس ، قال القفال : وهو أبلغ من العموم لأنه قائم مقام التخصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العام فإنه لا يكون كذلك .

والثاني : أن المراد منه رجل بعينه ، وهاهنا فيه قولان .

الأول : أن المراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل وهو غير ضائع عنده .

الثاني : قال ابن عباس : هو أبي بن خلف ، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول عليه السلام ، والإصرار على الكفر ، والأقرب أنه محمول على الجنس لأنه أكثر فائدة ، ولأن قوله : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه ) ، ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ) كالنوعين له ، وذلك لا يتم إلا إذا كان جنسا ، أما قوله : ( إنك كادح ) فاعلم أن الكدح جهد الناس في العمل والكدح فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه ، أما قوله : ( إلى ربك ) ففيه ثلاثة أوجه .

أحدها : إنك كادح إلى لقاء ربك وهو الموت أي هذا الكدح يستمر ويبقى إلى هذا الزمان ، وأقول في هذا التفسير نكتة لطيفة ، وذلك لأنها تقتضي أن الإنسان لا ينفك في هذه الحياة الدنيوية من أولها إلى آخرها عن الكدح والمشقة والتعب ، ولما كانت كلمة " إلى " لانتهاء الغاية ، فهي تدل على وجوب انتهاء الكدح والمشقة بانتهاء هذه الحياة ، وأن يكون الحاصل بعد هذه الدنيا محض السعادة والرحمة ، وذلك معقول ، فإن نسبة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الدنيا إلى رحم الأم ، فكما صح أن يقال : يا أيها الجنين إنك كادح إلى أن تنفصل من الرحم ، فكان ما بعد الانفصال عن الرحم بالنسبة إلى ما قبله خالصا عن الكدح والظلمة فنرجو من فضل الله أن يكون الحال فيما بعد الموت كذلك .

وثانيها : قال القفال : التقدير إنك كادح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك فبهذا التأويل حسن استعمال حرف إلى هاهنا .

وثالثها : يحتمل أن يكون دخول إلى على معنى أن الكدح هو السعي ، فكأنه قال : ساع بعملك ( إلى ربك ) أما قوله تعالى : ( فملاقيه ) ففيه قولان .

الأول : قال الزجاج : فملاق ربك أي ملاق حكمه لا مفر لك منه ، وقال آخرون : الضمير عائد إلى الكدح ، إلا أن الكدح عمل وهو عرض لا يبقى فملاقاته ممتنعة ، فوجب أن يكون المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا التأويل بقوله بعد هذه الآية : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية