صفحة جزء
( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد )

قوله تعالى : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ) المعنى وما عابوا منهم وما أنكروا الإيمان ، كقوله :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب



ونظيره قوله تعالى : ( هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ) [ المائدة : 59 ] وإنما قال : ( إلا أن يؤمنوا ) لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى ، فكأنه قيل : إلا أن يدوموا على إيمانهم ، وقرأ أبو حيوة : " نقموا " بالكسر ، والفصيح هو الفتح ، ثم إنه ذكر الأوصاف التي بها يستحق الإله أن يؤمن به ويعبد .

فأولها : العزيز وهو القادر الذي لا يغلب ، والقاهر الذي لا يدفع ، وبالجملة فهو إشارة إلى القدرة التامة .

وثانيها : الحميد وهو الذي يستحق الحمد والثناء على ألسنة عباده المؤمنين وإن كان بعض الأشياء لا يحمده بلسانه فنفسه شاهدة على أن المحمود في الحقيقة هو هو ، كما قال : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] وذلك إشارة إلى العلم لأن من لا يكون عالما بعواقب الأشياء لا يمكنه أن يفعل الأفعال الحميدة ، فالحميد يدل على العلم التام من هذا الوجه .

وثالثها : الذي له ملك السماوات والأرض وهو مالكها والقيم بهما ولو شاء لأفناهما ، وهو إشارة إلى الملك التام وإنما أخر هذه الصفة عن الأولين لأن الملك التام لا يحصل إلا عند حصول الكمال في القدرة والعلم ، فثبت أن من كان موصوفا بهذه الصفات كان هو المستحق للإيمان به وغيره لا يستحق ذلك البتة ، فكيف حكم أولئك الكفار الجهال بكون مثل هذا الإيمان ذنبا .

واعلم أنه تعالى أشار بقوله : ( العزيز ) إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين ، ولأطفأ نيرانهم ولأماتهم وأشار بقوله : ( الحميد ) إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل ، فإنه تعالى يوصل ثواب أولئك المؤمنين إليهم ، وعقاب أولئك الكفرة إليهم ، ولكنه تعالى لم يعالجهم بذلك لأنه لم يفعل إلا على حسب المشيئة أو المصلحة على سبيل التفضل ، فلهذا السبب قال : ( والله على كل شيء شهيد ) فهو وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية