صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( وهو محسن ) أي : لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح ، فإن الهند يتواضعون لله لكن بأفعال قبيحة ، وموضع قوله : ( وهو محسن ) موضع حال ، كقولك : جاء فلان وهو راكب ، أي جاء فلان راكبا ، ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه ، يعني به الثواب العظيم ، ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن ، فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل ، وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل ، فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة ؛ لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن فلا يحزن على أمر فاته ، ولا على أمر يناله ، ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره ، فقد بلغ النهاية ، وفي ذلك ترغيب في هذه الطريقة ، وتحذير من خلافها الذي هو طريقة الكفار المذكورين من قبل ، واعلم أنه تعالى وحد أولا ثم جمع ، ومثله قوله : ( وكم من ملك في السماوات ) [ النجم : 26 ] ثم قال : ( شفاعتهم ) [ النجم : 26 ] وقوله : ( ومنهم من يستمع إليك ) [ الأنعام : 25 ] وقال في موضع آخر : ( يستمعون إليك ) [ يونس : 42 ] وقال : ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك ) [ محمد : 16 ] ولم يقل : خرج ، واعلم أنا لما فسرنا قوله : ( من أسلم وجهه لله ) بالإخلاص ، فلنذكر ههنا حقيقة الإخلاص ، وذلك لا يمكن بيانه إلا في مسائل :

المسألة الأولى : في فضل النية ، قال عليه الصلاة والسلام : " إنما الأعمال بالنيات " ، وقال : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم " وفي الإسرائيليات أن رجلا مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاما لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له : إن الله قبل صدقتك ، وشكر حسن نيتك ، وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت به .

المسألة الثانية : الإنسان إذا علم أو ظن أو اعتقد أن له في فعل من الأفعال جلب نفع أو دفع ضر ظهر في قلبه ميل وطلب ، وهو صفة تقتضي ترجيح وجود ذلك الشيء على عدمه ، وهي الإرادة ، فهذه الإرادة هي النية ، والباعث له على تلك النية ذلك العلم أو الاعتقاد أو الظن ، إذا عرفت هذا فنقول : الباعث على الفعل إما أن يكون أمرا واحدا ، وإما أن يكون أمرين ، وعلى التقدير الثاني فإما أن يكون كل واحد منهما مستقلا بالبعث ، أو لا يكون واحد منهما مستقلا بذلك ، أو يكون أحدهما مستقلا بذلك دون الآخر ، فهذه أقسام أربعة :

الأول : أن يكون الباعث واحدا وهو كما إذا هجم على الإنسان سبع ، فلما رآه قام من مكانه ، فهذا الفعل لا داعي إليه إلا اعتقاده ما في الهرب من النفع ، وما في ترك الهرب من الضرر ، فهذه النية تسمى خالصة ، ويسمى العمل بموجبها إخلاصا .

الثاني : أن يجتمع على الفعل باعثان مستقلان ، كما إذا سأله رفيقه الفقير حاجة فيقضيها ؛ لكونه رفيقا له ، وكونه فقيرا ، مع كون كل واحد من الوصفين بحيث لو انفرد لاستقل بالاستقضاء ، واسم هذا موافقة الباعث .

الثالث : أن لا يستقل واحد منهما لو انفرد ، لكن المجموع مستقل ، واسم هذا مشاركة .

الرابع : أن يستقل أحدهما ، ويكون الآخر معاضدا ، مثل أن يكون للإنسان ورد من الطاعات فاتفق أن حضر في وقت أدائها جماعة من الناس ، فصار الفعل عليه أخف بسبب مشاهدتهم ، واسم هذا معاونة .

[ ص: 6 ] المسألة الثالثة : في تفسير قوله عليه السلام : " نية المؤمن خير من عمله " ذكروا فيه وجوها :

أحدها : أن النية سر ، والعمل علن ، وطاعة السر أفضل من طاعة العلانية ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه يقتضي أن تكون نية الصلاة خيرا من نفس الصلاة .

وثانيها : النية تدوم إلى آخر العمل ، والأعمال لا تدوم ، والدائم خير من المنقطع ، وهذا ليس بشيء ؛ لأنه يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من العمل القليل ، وأيضا فنية عمل الصلاة قد لا تحصل إلا في لحظات قليلة ، والأعمال تدوم .

وثالثها : أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده ، وهو ضعيف ، إذ العمل بلا نية لا خير فيه ، وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخيرية .

ورابعها : أن لا يكون المراد من الخير إثبات الأفضلية ، بل المراد أن النية خير من الخيرات الواقعة بعمله ، وهو ضعيف ؛ لأن حمل الحديث عليه لا يفيد إلا إيضاح الواضحات ، بل الوجه الجيد في التأويل أن يقال : النية ما لم تخل عن جميع أنواع الفتور لا تكون نية جازمة ، ومتى خلت عن جميع جهات الفتور وجب ترتب الفعل عليها لو لم يوجد عائق ، وإذا كان كذلك ثبت أن النية لا تنفك ألبتة عن الفعل ، فيدعى أن هذه النية أفضل من ذلك العمل ، وبيانه من وجوه :

أولها : أن المقصود من جميع الأعمال تنوير القلب بمعرفة الله ، وتطهيره عما سوى الله ، والنية صفة القلب ، والفعل ليس صفة القلب ، وتأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح في القلب ، فلا جرم نية المؤمن خير من عمله .

وثانيها : أنه لا معنى للنية إلا القصد إلى إيقاع تلك الأعمال طاعة للمعبود وانقيادا له ، وإنما إيراد الأعمال ليستحفظ التذكر بالتكرير ، فيكون الذكر والقصد الذي في القلب بالنسبة إلى العمل كالمقصود بالنسبة إلى الوسيلة ، ولا شك أن المقصود أشرف من الوسيلة .

وثالثها : أن القلب أشرف من الجسد ، ففعله أشرف من فعل الجسد ، فكانت النية أفضل من العمل .

المسألة الرابعة : اعلم أن الأعمال على ثلاثة أقسام : طاعات ، ومعاص ، ومباحات ، أما المعاصي فهي لا تتغير عن موضوعاتها بالنية ، فلا يظن الجاهل أن قوله عليه الصلاة والسلام : " إنما الأعمال بالنيات " يقتضي انقلاب المعصية طاعة بالنية ، كالذي يطعم فقيرا من مال غيره ، أو يبني مسجدا من مال حرام .

الثاني : الطاعات ، وهي مرتبطة بالنيات في الأصل وفي الفضيلة ، أما في الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى ، فإن نوى الرياء صارت معصية ، وأما الفضيلة فبكثرة النيات تكثر الحسنة كمن قعد في المسجد وينوي فيه نيات كثيرة :

أولها : أن يعتقد أنه بيت الله ويقصد به زيارة مولاه كما قال عليه الصلاة والسلام : " من قعد في المسجد فقد زار الله ، وحق على المزور إكرام زائره " .

وثانيها : أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة ، فيكون حال الانتظار كمن هو في الصلاة .

وثالثها : إغضاء السمع والبصر وسائر الأعضاء عما لا ينبغي ، فإن الاعتكاف كف ، وهو في معنى الصوم ، وهو نوع ترهب ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " رهبانية أمتي القعود في المساجد " .

ورابعها : صرف القلب والسر بالكلية إلى الله تعالى .

وخامسها : إزالة ما سوى الله عن القلب .

وسادسها : أن يقصد إفادة علم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر .

وسابعها : أن يستفيد أخا في الله ، فإن ذلك غنيمة أهل الدين .

وثامنها : أن يترك الذنوب حياء من الله ، فهذا طريق تكثير النيات ، وقس به سائر الطاعات .

القسم الثالث : سائر المباحات ، ولا شيء منها إلا ويحتمل نية أو نيات ، يصير بها من محاسن القربات ، فما أعظم خسران من يغفل عنها ، ولا يصرفها إلى القربات ، وفي الخبر : " من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة " ، فإن قلت : فاشرح لي كيفية هذه النية ، فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم بلذات الدنيا ، أو إظهار التفاخر بكثرة المال ، أو [ ص: 7 ] رياء الخلق ، أو ليتودد به إلى قلوب النساء ، فكل ذلك يجعل التطيب معصية ، وإن كان القصد إقامة السنة ، ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله ، وتعظيم المسجد ، فهو عين الطاعة ، وإذا عرفت ذلك فقس عليه سائر المباحات ، والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق ، وكل ما عملته لغير الله ، فحلالها حساب وحرامها عذاب .

المسألة الخامسة : اعلم أن الجاهل إذا سمع الوجوه العقلية والنقلية في أنه لا بد من النية ، فيقول في نفسه عند تدريسه وتجارته : نويت أن أدرس لله ، وأتجر لله ، يظن أن ذلك نية ، وهيهات ، فذاك حديث نفس ، أو حديث لسان ، والنية بمعزل عن جميع ذلك ، إنما النية انبعاث النفس ، وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلا وإما آجلا . والميل إذا لم يحصل لم يقدر الإنسان على اكتسابه ، وهو كقول الشبعان : نويت أن أشتهي الطعام ، أو كقول الفارغ : نويت أن أعشق ، بل لا طريق إلى اكتساب الميل إلى الشيء إلا باكتساب أسبابه ، وليست هي إلا تحصيل العلم بما فيه من المنافع ، ثم هذا العلم لا يوجب هذا الميل إلا عند خلو القلب عن سائر الشواغل ، فإذا غلبت شهوة النكاح ، ولم يعتقد في الولد غرضا صحيحا لا عاجلا ولا آجلا ، لا يمكنه أن يواقع على نية الولد ، بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة ، إذ النية هي إجابة الباعث ، ولا باعث إلا الشهوة ، فكيف ينوي الولد ؟ فثبت أن النية ليست عبارة عن القول باللسان أو بالقلب ، بل هي عبارة عن حصول هذا الميل ، وذلك أمر معلق بالغيب ، فقد يتيسر في بعض الأوقات ، وقد يتعذر في بعضها .

المسألة السادسة : اعلم أن نيات الناس في الطاعات أقسام : فمنهم من يكون عملهم إجابة لباعث الخوف ، فإنه يتقي النار ، ومنهم من يعمل لباعث الرجاء ، وهو الرغبة في الجنة ، والعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه ، كالأجير السوء ، ودرجته درجة البله ، وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله والفكر فيه حبا لجلاله ، وسائر الأعمال مؤكدات له ، وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وثواب الناس بقدر نياتهم ، فلا جرم صار المقربون متنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم ، ونسبة شرف الالتذاذ بنعيم الجنة إلى شرف الالتذاذ بهذا المقام كنسبة نعيم الجنة إلى وجهه الكريم .

التالي السابق


الخدمات العلمية