[ ص: 163 ]   ( سورة البلد ) 
عشرون آية ، مكية 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( 
لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد   ) 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( 
لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد   ) 
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي 
مكة  ، واعلم أن 
فضل مكة  معروف ، فإن الله تعالى جعلها حرما آمنا ، فقال في المسجد الذي فيها : ( 
ومن دخله كان آمنا   ) [ آل عمران : 97 ] وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب ، فقال : ( 
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره   ) [ البقرة : 144 ] وشرف 
مقام إبراهيم  بقوله : ( 
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى   ) [ البقرة : 125 ] وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال : ( 
ولله على الناس حج البيت   ) [ آل عمران : 97 ] وقال في البيت : ( 
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا   ) [ البقرة : 125 ] وقال : ( 
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا   ) [ الحج : 26 ] وقال : ( 
وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق   ) [ الحج : 26 ] وحرم فيه الصيد ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الدنيا من تحته ، فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في 
مكة  لا جرم أقسم الله تعالى بها . 
فأما قوله : ( 
وأنت حل بهذا البلد   ) فالمراد منه أمور : 
أحدها : وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به ، كأنه تعالى عظم 
مكة  من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها . 
وثانيها : الحل بمعنى الحلال ، أي : أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات ، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك ، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك ، عن 
شرحبيل    : يحرمون أن يقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه 
تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة  ، وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له . 
وثالثها : قال 
قتادة    : ( 
وأنت حل   ) أي : لست بآثم ، وحلال لك أن تقتل 
بمكة  من شئت ، وذلك أن الله تعالى فتح عليه 
مكة  وأحلها له ، وما فتحت على أحد قبله ، فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء ، فقتل 
عبد الله بن خطل  وهو متعلق بأستار 
الكعبة  ، 
ومقيس بن صبابة   [ ص: 164 ] وغيرهما ، وحرم دار أبي سفيان ، ثم قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013956  " إن الله حرم مكة  يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل إلا ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ، ولا يختلى خلاها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد . فقال العباس    : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لبيوتنا وقبورنا ، فقال : إلا الإذخر   " . 
فإن قيل : هذه السورة مكية ، وقوله : ( 
وأنت حل   ) إخبار عن الحال ، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى 
المدينة  ، فكيف الجمع بين الأمرين ؟ 
قلنا : قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلا ، كقوله تعالى : ( 
إنك ميت   ) [ الزمر : 30 ] وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهذا من الله أحسن ، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع . 
ورابعها : ( 
وأنت حل بهذا البلد   ) أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيما منك لهذا البيت ، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله وتكذيب الرسل . 
وخامسها : أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد ، ثم قال : ( 
وأنت حل بهذا البلد   ) أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة ، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : ( 
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم   ) [ الجمعة : 2 ] وقال : ( 
لقد جاءكم رسول من أنفسكم   ) [ التوبة : 128 ] وقوله : ( 
فقد لبثت فيكم عمرا من قبله   ) [ يونس : 16 ] فيكون الغرض شرح منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه من هذا البلد . أما قوله : ( 
ووالد وما ولد   ) فاعلم أن هذا معطوف على قوله : ( 
لا أقسم بهذا البلد   ) وقوله : ( 
وأنت حل بهذا البلد   ) معترض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وللمفسرين فيه وجوه : 
أحدها : الولد 
آدم    " وما ولد " ذريته ، أقسم بهم إذ هم من 
أعجب خلق الله على وجه الأرض ، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه ، وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود 
لآدم  وعلمه الأسماء كلها ، وقد قال الله تعالى : ( 
ولقد كرمنا بني آدم   ) [ الإسراء : 70 ] فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم ، لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب ، وقيل : هو قسم 
بآدم  والصالحين من أولاده ، بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم . كما قال : ( 
إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا   ) ، [ الفرقان : 44 ] ، ( 
صم بكم عمي فهم لا يرجعون   ) [ البقرة : 18 ] . 
وثانيها : أن الولد 
إبراهيم  وإسماعيل  وما ولد 
محمد  صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه أقسم 
بمكة  وإبراهيم  بانيها 
وإسماعيل  ومحمد  عليهما السلام سكانها ، وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب ، وإنما قال : ( 
وما ولد   ) ولم يقل ومن ولد ، للفائدة الموجودة في قوله : ( 
والله أعلم بما وضعت   ) [ آل عمران : 36 ] أي بأي شيء وضعت يعني موضوعا عجيب الشأن . 
وثالثها : الولد 
إبراهيم  وما ولد جميع ولد 
إبراهيم  بحيث يحتمل العرب والعجم . فإن جملة ولد 
إبراهيم  هم سكان البقاع الفاضلة من أرض 
الشام  ومصر  وبيت المقدس  وأرض العرب ومنهم 
الروم  لأنهم ولد 
عيصو بن إسحاق  ، ومنهم من خص ذلك بولد 
إبراهيم  من العرب ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين ، وإنما قلنا : إن هذا القسم واقع بولد 
إبراهيم  المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013957كما صليت على إبراهيم  وآل إبراهيم    " وهم المؤمنين . 
ورابعها : روي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أنه قال : الولد الذي يلد ، وما ولد الذي لا يلد ، فـ" ما " ههنا يكون للنفي ، وعلى هذا لا بد عن إضمار الموصول أي : ووالد والذي ما ولد ، وذلك لا يجوز عند البصريين . 
وخامسها : يعني كل والد   
[ ص: 165 ] ومولود ، وهذا مناسب ، لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام . 
وأما قوله تعالى : ( 
لقد خلقنا الإنسان في كبد   ) ففيه مسائل :