صفحة جزء
[ ص: 9 ] ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم )

قوله تعالى : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم )

اعلم أن في هذه الآية مسائل :

المسألة الأولى : أجمع المفسرون على أنه ليس المراد من هذه الآية مجرد بيان الشرط والجزاء ، أعني مجرد بيان أن من فعل كذا ، فإن الله يفعل به كذا ، بل المراد منه بيان أن منهم من منع عمارة المساجد ، وسعى في خرابها ، ثم إن الله تعالى جازاهم بما ذكر في الآية ، إلا أنهم اختلفوا في أن الذين منعوا من عمارة المسجد وسعوا في خرابه من هم ؟ وذكروا فيه أربعة أوجه :

أولها : قال ابن عباس : أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه ، وألقى فيه الجيف ، وحاصر أهله وقتلهم ، وسبى البقية وأحرق التوراة ، ولم يزل بيت المقدس خرابا حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر .

وثانيها : قال الحسن وقتادة والسدي : نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس ، وبعض النصارى أعانه على ذلك بغضا لليهود .

قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : هذان الوجهان غلطان ؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح - عليه السلام - بدهر طويل ، والنصارى كانوا بعد المسيح ؛ فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس ، وأيضا فإن النصارى يعتقدون في تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود وأكثر ، فكيف أعانوا على تخريبه .

وثالثها : أنها نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعاء إلى الله بمكة وألجئوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام ، وقد كان الصديق - رضي الله عنه - بنى مسجدا عند داره ، فمنع ، وكان ممن يؤذيه ولدان قريش ونساؤهم ، وقيل : إن قوله تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) [ الإسراء : 110 ] نزلت في ذلك ، فمنع من الجهر لئلا يؤذى ، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل : ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحدون الله ولا يشركون به شيئا ، ويصلون له تذللا وخشوعا ، ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه ، وألسنتهم بالذكر له ، وجميع جسدهم بالتذلل لعظمته وسلطانه .

ورابعها : قال أبو مسلم : المراد منه الذين صدوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية ، واستشهد بقوله تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ) [ الفتح : 25 ] وبقوله : ( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ) [ الأنفال : 34 ] وحمل قوله : ( إلا خائفين ) بما يعلي الله من يده ، ويظهر من كلمته ، كما قال في المنافقين : ( لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ) [ الأحزاب : 60 ] وعندي فيه وجه خامس ، وهو أقرب إلى رعاية النظم : وهو أن يقال : إنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود ، فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة عند توجههم إلى الكعبة ، [ ص: 10 ] ولعلهم سعوا أيضا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها ، وسعوا أيضا في تخريب مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لئلا يصلوا فيه متوجهين إلى القبلة ، فعابهم الله بذلك ، وبين سوء طريقتهم فيه ، وهذا التأويل أولى مما قبله ، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلا قبائح أفعال اليهود والنصارى ، وذكر أيضا بعدها قبائح أفعالهم ، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدهم الرسول عن المسجد الحرام ، وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف أيضا على ما شرحه أبو بكر الرازي ، فلم يبق إلا ما قلناه .

المسألة الثانية : في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

فأما من حملها على النصارى وخراب بيت المقدس ، قال : تتصل بما قبلها من حيث إن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط ، فقيل لهم : كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد والسعي في خرابها هكذا .

وأما من حمله على المسجد الحرام ، وسائر المساجد ، قال : جرى ذكر مشركي العرب في قوله : ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) [ البقرة : 113 ] وقيل : جرى ذكر جميع الكفار وذمهم ، فمرة وجه الذم إلى اليهود والنصارى ، ومرة إلى المشركين .

المسألة الثالثة : قوله : ( مساجد الله ) عموم ، فمنهم من قال : المراد به كل المساجد ، ومنهم من حمله على ما ذكرناه من المسجد الحرام وغيره من مساجد مكة ، وقالوا : قد كان لأبي بكر - رضي الله عنه - مسجد بمكة يدعو الله فيه ، فخربوه قبل الهجرة ، ومنهم من حمله على المسجد الحرام فقط ، وهو قول أبي مسلم حيث فسر المنع بصد الرسول عن المسجد الحرام عام الحديبية ، فإن قيل : كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد ؟ قلنا : فيه وجوه :

أحدها : هذا كمن يقول لمن آذى صالحا واحدا : ومن أظلم ممن آذى الصالحين .

وثانيها : أن المسجد موضع السجود ، فالمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجدا واحدا بل مساجد .

المسألة الرابعة : قوله : ( أن يذكر فيها اسمه ) في محل النصب ، واختلفوا في العامل فيه على أقوال :

الأول : أنه ثاني مفعولي " منع " لأنك تقول : منعته كذا ، ومثله : ( وما منعنا أن نرسل بالآيات ) [ الإسراء : 59 ] ( وما منع الناس أن يؤمنوا ) [ الإسراء : 94 ] .

الثاني : قال الأخفش : يجوز أن يكون على حذف " من " ، كأنه قيل : منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه .

الثالث : أن يكون على البدل من " مساجد الله " .

الرابع : قال الزجاج : يجوز أن يكون على معنى : كراهة أن يذكر فيها اسمه ، والعامل فيه " منع " .

المسألة الخامسة : السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين :

أحدهما : منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله ، فيكون ذلك تخريبا .

والثاني : بالهدم والتخريب ، وليس لأحد أن يقول : كيف يصح أن يتأول على بيت الله الحرام ، ولم يظهر فيه التخريب ؛ لأن منع الناس من إقامة شعار العبادة فيه يكون تخريبا له ، وقيل : إن أبا بكر - رضي الله عنه - كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر .

المسألة السادسة : ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم ، وفيه إشكال ؛ لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] مع أن الشرك أعظم من هذا الفعل ، وكذا الزنا ، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل ، والجواب عنه : أقصى ما في الباب أنه عام دخله التخصيص فلا يقدح فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية