صفحة جزء
المسألة الثالثة : هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع :

أحدها : أنه تعالى فسر قوله : ( الذين كفروا ) بأهل الكتاب وبالمشركين ، فهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر ، فمن ذلك قال العلماء : الكفر كله ملة واحدة ، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس .

والثاني : أن العطف أوجب المغايرة ، فلذلك نقول : الذمي ليس بمشرك ، وقال عليه السلام : " غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك .

الثالث : نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية .

المسألة الرابعة : قال القفال : الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتح [ ص: 40 ] والزوال ، ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته ، ومنه فكاك الرهن وهو زوال الانغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله : انفك الرهن ، ومنه فكاك الأسير وفكه ، فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به ، كالعظم إذا انفك من مفصله ، والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثا قويا لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة ، أما البينة فهي الحجة الظاهرة التي بها يتميز الحق من الباطل فهي من البيان أو البينونة لأنها تبين الحق من الباطل ، وفي المراد من البينة في هذه الآية أقوال :

الأول : أنها هي الرسول ، ثم ذكروا في أنه لم سمي الرسول بالبينة وجوها :

الأول : أن ذاته كانت بينة على نبوته ، وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجد في تقرير النبوة والرسالة ، ومن كان كذابا متصنعا فإنه لا يتأتى منه ذلك الجد المتناهي ، فلم يبق إلا أن يكون صادقا أو معتوها .

والثاني معلوم البطلان لأنه كان في غاية كمال العقل ، فلم يبق إلا أنه كان صادقا .

الثاني : أن مجموع الأخلاق الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز ، والجاحظ قرر هذا المعنى ، والغزالي رحمه الله نصره في كتاب المنقذ ، فإذا لهذين الوجهين سمي هو في نفسه بأنه بينة .

الثالث : أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظهور وكانت أيضا في غاية الكثرة فلاجتماع هذين الأمرين جعل كأنه عليه السلام في نفسه بينة وحجة ، ولذلك سماه الله تعالى : ( سراجا منيرا ) [الأحزاب : 46] . واحتج القائلون بأن المراد من البينة هو الرسول بقوله تعالى بعد هذه الآية : ( رسول من الله ) فهو رفع على البدل من البينة ، وقرأ عبد الله : " رسولا " حال من البينة قالوا : والألف واللام في قوله : ( البينة ) للتعريف أي هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى ، أو يقال : إنها للتفخيم أي هو "البينة" التي لا مزيد عليها أو البينة كل البينة لأن التعريف قد يكون للتفخيم وكذا التنكير وقد جمعهما الله ههنا في حق الرسول عليه السلام فبدأ بالتعريف وهو لفظ البينة ثم ثنى بالتنكير فقال : ( رسول من الله ) أي هو رسول وأي رسول ، ونظيره ما ذكره الله تعالى في الثناء على نفسه فقال : ( ذو العرش المجيد ) [البروج : 15] ثم قال : ( فعال ) فنكر بعد التعريف .

القول الثاني : أن المراد من ( البينة ) مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال : المراد من قوله : ( حتى تأتيهم البينة ) أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلو عليهم صحفا مطهرة وهو كقوله : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) [النساء : 153] وكقوله : ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) [المدثر : 52] .

القول الثالث : وهو قول قتادة وابن زيد : ( البينة ) هي القرآن ونظيره قوله : ( أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) [طه : 133] ثم قوله بعد ذلك : ( رسول من الله ) لا بد فيه من مضاف محذوف والتقدير : وتلك البينة وحي : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) .

أما قوله تعالى : ( يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ) فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب ، وفي : ( المطهرة ) وجوه :

أحدها : ( مطهرة ) عن الباطل وهي كقوله : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) [فصلت : 42] وقوله : ( مرفوعة مطهرة ) [عبس : 14] .

وثانيها : (مطهرة ) عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثنى عليه أحسن الثناء .

وثالثها : أن يقال : ( مطهرة ) أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون ، كقوله تعالى : ( في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ) [الواقعة : 78] .

[ ص: 41 ] واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتا للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله : ( كتب ) فيه قولان :

( أحدهما ) المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف .

والثاني : قال صاحب النظم : الكتب قد يكون بمعنى الحكم : ( كتب الله لأغلبن ) [المجادلة : 21] ومنه حديث العسيف : " لأقضين بينكما بكتاب الله " أي بحكم الله فيحتمل أن يكون المراد من قوله : ( كتب قيمة ) أي أحكام قيمة أما القيمة ففيها قولان :

الأول : قال الزجاج : مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت ، وهو كقولهم : قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام .

الثاني : أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة ، من قولهم : قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه ، ومنه يقال للقائم بأمر القوم : القيم ، فإن قيل : كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أميا ؟ قلنا : إذا تلا مثلا المسطور في تلك الصحف كان تاليا ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب ، وإن كان لا يكتب ، ولعل هذا كان من معجزاته صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله تعالى : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : في هذه الآية سؤال ، وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة أهل الكتاب والمشركين ، وههنا ذكر أهل الكتاب فقط ، فما السبب فيه ؟ وجوابه من وجوه :

أحدها : أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل ، بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية .

وثانيها : أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب أنهم وجدوها في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف .

المسألة الثانية : قال الجبائي : هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا : إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة ، والجواب : أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم الله بذلك وإرادته له حاصل في الأزل ، أما ظهوره من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة .

المسألة الثالثة : قالوا : هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلهم لا أنه مقدر عليهم ; لأنه قال : ( إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) ، ثم قال : ( أوتوا الكتاب ) أي أن الله وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى الله ، والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم .

المسألة الرابعة : المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم أي : لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم ، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل : ( إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) فهي عادة قديمة لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية