صفحة جزء
المسألة الثانية : في هذه الآية لطائف :

إحداها : أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معا ، فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول ، وهم اليهود والنصارى والمجوس ، فإنهم ربما أتعبوا أنفسهم في الطاعات ، ولكنهم ما حصلوا الدين الحق ، وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع ، وهم المرجئة الذين قالوا : لا يضر الذنب مع الإيمان ، والله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية ، وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله : ( مخلصين ) ومن العمل في قوله : ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ثم قال : وذلك المجموع كله هو ( دين القيمة ) أي البينة المستقيمة المعتدلة ، فكما أن مجموع الأعضاء بدن واحد ، كذا هو المجموع دين واحد ، فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة ؛ لأن باللسان يظهر قدر فضلك ، وبالصدقة يظهر قدر دينك ، ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول : القائم بتحصيل مصالحك عاجلا وآجلا هو هذا المجموع ، ونظيره قوله تعالى : ( دينا قيما ) وقوله في القرآن : ( قيما لينذر بأسا شديدا ) لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق ، ويؤيده قوله عليه السلام : من كان في عمل الله كان الله في عمله وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : "يا دنيا ، من خدمك فاستخدميه ، ومن خدمني فاخدميه "

وثانيها : أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة ، وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح لخالقهم ، فالإحسان من الله لا من الملائكة ، والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من الله ، ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول الله مباهيا بهم : ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا ، بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا وتصدقوا ، ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان ، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين : أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان ، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين ، فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة ، [ ص: 46 ] فلهذا قال : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ) [ الرعد : 32-42 ] أفلا يكون هذا الدين قيما .

وثالثها : أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ، ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز ، والقادرة بلا علم مجنونة ، فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للدين كالعلم ، والزكاة كالقدرة ، فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة .

ورابعها : وهو فائدة الترتيب أن الحكيم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء ، وهو القول والاعتقاد فقال : ( مخلصين ) ثم لما أجابوه زاده ، فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت ، ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال : لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ثم لما ذكر الكل قال : ( وذلك دين القيمة ) .

المسألة الثالثة : احتج من قال : الإيمان عبارة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية ، فقال : مجموع القول والفعل والعمل هو الدين ، والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان ، فإذا مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان ، لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة . ثم قال : ( وذلك دين القيمة ) أي وذلك المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا : إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) [ آل عمران : 19 ] وإنما قلنا : إن الإسلام هو الإيمان لوجهين :

الأول : أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله تعالى لقوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) [ آل عمران : 85 ] لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله ، فهو إذا عين الإسلام .

والثاني : قوله تعالى : ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) [ الذاريات : 35 ] فاستثناء المسلم من المؤمن ، يدل على أن الإسلام يصدق عليه ، وإذا ثبتت هذه المقدمات ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان ، وحينئذ يبطل قول من قال : الإيمان اسم لمجرد المعرفة ، أو لمجرد الإقرار أو لهما معا . والجواب : لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله : ( وذلك ) إلى الإخلاص فقط ؟ والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى ، وأنتم تحتاجون إلى الإضمار ، فتقولون : المراد : وذلك المذكور ، ولا شك أن عدم الإضمار أولى ، سلمنا أن قوله : ( وذلك ) إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم ، فلم قلتم : إن ذلك المجموع هو الدين ، وذلك لأن الدين غير ؛ الدين القيم ، فالدين القيم هو الدين الكامل المستقل بنفسه ، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلا ، وكانت آثاره ونتائجه معه حاصلة أيضا ، وهي الصلاة والزكاة ، وإذا لم يوجد هذا المجموع ، لم يكن الدين القيم حاصلا ، لكن لم قلتم : إن أصل الدين لا يكون حاصلا والنزاع ما وقع إلا فيه ؟ والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية