صفحة جزء
( إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد )

أحدها : قوله : ( إن الإنسان لربه لكنود ) قال الواحدي : أصل الكنود منع الحق والخير ، والكنود الذي [ ص: 64 ] يمنع ما عليه ، والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئا ، ثم للمفسرين عبارات ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة : الكنود هو الكفور قالوا : ومنه سمي الرجل المشهور كندة لأنه كند أباه ففارقه ، وعن الكلبي الكنود -بلسان كندة- : العاصي ، وبلسان بني مالك : البخيل ، وبلسان مضر وربيعة : الكفور ، وروى أبو أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم أن " الكنود " هو الكفور الذي يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده ، وقال الحسن : "الكنود " اللوام لربه يعد المحن والمصائب ، وينسى النعم والراحات ، وهو كقوله : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) [ الفجر : 16 ] واعلم أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفرا أو فسقا ، وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس ، فلا بد من صرفه إلى كافر معين ، أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقه من ذلك ، والأول قول الأكثرين قالوا : لأن ابن عباس قال : إنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي ، وأيضا فقوله : ( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ) لا يليق إلا بالكافر : لأن ذلك كالدلالة على أنه منكر لذلك الأمر .

الثاني : من الأمور التي أقسم الله عليها قوله : ( وإنه على ذلك لشهيد ) وفيه قولان :

أحدهما : أن الإنسان على ذلك أي : على كنوده لشهيد يشهد على نفسه بذلك ، إما لأنه أمر ظاهر لا يمكنه أن يجحده ، أو لأنه يشهد على نفسه بذلك في الآخرة ويعترف بذنوبه .

القول الثاني : المراد وإن الله على ذلك لشهيد قالوا : وهذا أولى لأن الضمير عائد إلى أقرب المذكورات ، والأقرب ههنا هو لفظ الرب تعالى ويكون ذلك كالوعيد والزجر له عن المعاصي من حيث إنه يحصي عليه أعماله ، وأما الناصرون للقول الأول فقالوا : إن قوله بعد ذلك : ( وإنه لحب الخير لشديد ) الضمير فيه عائد إلى الإنسان ، فيجب أن يكون الضمير في الآية التي قبله عائدا إلى الإنسان ليكون النظم أحسن .

الأمر الثالث : مما أقسم الله عليه قوله : ( وإنه لحب الخير لشديد ) الخير المال من قوله تعالى : ( إن ترك خيرا ) [ البقرة : 180 ] وقوله : ( وإذا مسه الخير منوعا ) [ المعارج : 21 ] وهذا لأن الناس يعدون المال فيما بينهم خيرا كما أنه تعالى سمى ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب سوءا في قوله : ( لم يمسسهم سوء ) [ آل عمران : 174 ] والشديد البخيل الممسك ، يقال : فلان شديد ومتشدد ، قال طرفة :


أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد



ثم في التفسير وجوه :

أحدها : أنه لأجل حب المال لبخيل ممسك .

وثانيها : أن يكون المراد من الشديد القوي ، ويكون المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف ، تقول : هو شديد لهذا الأمر وقوي له ، إذا كان مطيقا له ضابطا .

وثالثها : أراد إنه لحب الخيرات غير هني منبسط ولكنه شديد منقبض .

ورابعها : قال الفراء : يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال ، ويحب كونه محبا له ، إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني ، كما قال : ( اشتدت به الريح في يوم عاصف ) [ إبراهيم : 18 ] أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية .

وخامسها : قال قطرب : أي إنه شديد حب الخير ، كقولك إنه لزيد ضروب أي إنه ضروب زيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية