صفحة جزء
( وآمنهم من خوف ) أما قوله تعالى : ( وآمنهم من خوف ) ففي تفسيره وجوه :

أحدها : أنهم كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد ، ولا يغير عليهم أحد لا في سفرهم ، ولا في حضرهم ، وكان غيرهم لا يأمنون من الغارة في السفر والحضر ، وهذا معنى قوله : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ) [ العنكبوت : 67 ] .

ثانيها : أنه آمنهم من زحمة أصحاب الفيل .

وثالثها : قال الضحاك والربيع : وآمنهم من خوف الجذام ، فلا يصيبهم ببلدتهم [ ص: 103 ] الجذام .

ورابعها : آمنهم من خوف أن تكون الخلافة في غيرهم .

وخامسها : آمنهم بالإسلام ، فقد كانوا في الكفر يتفكرون ، فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء ، إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به .

وسادسها : أطعمهم من جوع الجهل بطعام الوحي ، وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى ، كأنه تعالى يقول : يا أهل مكة كنتم قبل مبعث محمد تسمون جهال العرب وأجلافهم ، ومن كان ينازعكم كانوا يسمون أهل الكتاب ، ثم أنزلت الوحي على نبيكم ، وعلمتكم الكتاب والحكمة حتى صرتم الآن تسمون أهل العلم والقرآن ، وأولئك يسمون جهال اليهود والنصارى ، ثم إطعام الطعام الذي يكون غذاء الجسد يوجب الشكر ، فإطعام الطعام الذي هو غذاء الروح ، ألا يكون موجبا للشكر ! وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : لم لم يقل : عن جوع وعن خوف ؟ قلنا : لأن معنى " عن " أنه جعل الجوع بعيدا عنهم ، وهذا يقتضي أن يكون ذلك التبعيد مسبوقا بمقاساة الجوع زمانا ، ثم يصرفه عنه ، و" من " لا تقتضي ذلك ، بل معناه أنهم عندما يجوعون يطعمون ، وحين ما يخافون يؤمنون .

السؤال الثاني : لم قال : من جوع ، من خوف على سبيل التنكير ؟ الجواب : المراد من التنكير التعظيم . أما الجوع فلما روينا : أنه أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة . وأما الخوف ، فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل ، ويحتمل أن يكون المراد من التنكير التحقير ، يكون المعنى أنه تعالى لما لم يجوز لغاية كرمه إبقاءهم في ذلك الجوع القليل والخوف القليل ، فكيف يجوز في كرمه لو عبدوه أن يهمل أمرهم ؟ ! ويحتمل أن يكون المراد أنه : ( أطعمهم من جوع ) دون جوع ( وآمنهم من خوف ) دون خوف ، ليكون الجوع الثاني ، والخوف الثاني مذكرا ما كانوا فيه أولا من أنواع الجوع والخوف ، حتى يكونوا شاكرين من وجه ، وصابرين من وجه آخر ، فيستحقوا ثواب الخصلتين .

السؤال الثالث : أنه تعالى إنما أطعمهم وآمنهم إجابة لدعوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أما في الإطعام فهو قوله : ( وارزق أهله ) [ البقرة : 126 ] وأما الأمان فهو قوله : ( اجعل هذا البلد آمنا ) [ إبراهيم : 35 ] وإذا كان كذلك كان ذلك منة على إبراهيم عليه السلام ، فكيف جعله منة على أولئك الحاضرين ؟ والجواب : أن الله تعالى لما قال : ( إني جاعلك للناس إماما ) [ البقرة : 124 ] قال إبراهيم : ( ومن ذريتي ) [ البقرة : 124] فقال الله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] فنادى إبراهيم بهذا الأدب ، فحين قال : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) [ البقرة : 126 ] قيده بقوله : ( من آمن منهم بالله ) [ البقرة : 126 ] فقال الله : لا حاجة إلى هذا التقييد ، بل ومن كفر فأمتعه قليلا ، فكأنه تعالى قال : أما نعمة الأمان فهي دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيا ، وأما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح ، وإن كان كذلك كان إطعام الكافر من الجوع ، وأمانه من الخوف إنعاما من الله ابتداء عليه لا بدعوة إبراهيم ، فزال السؤال . والله سبحانه وتعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية