صفحة جزء
المسألة الثالثة : اعلم أن الضمير لا بد أن يكون عائدا إلى مذكور سابق ، فالضمير إما أن يكون متقدما على المذكور لفظا ومعنى ، وإما أن يكون متأخرا عنه لفظا ومعنى ، وإما أن يكون متقدما لفظا ومتأخرا معنى ، وإما أن يكون بالعكس منه .

أما القسم الأول : وهو أن يكون متقدما لفظا ومعنى فالمهشور عند النحويين أنه غير جائز ، وقال ابن جني بجوازه ، واحتج عليه بالشعر والمعقول ، أما الشعر فقوله :


جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات وقد فعل



وأما المعقول فلأن الفاعل مؤثر والمفعول قابل وتعلق الفعل بهما شديد ، فلا يبعد تقديم أي واحد منهما كان على الآخر في اللفظ ، ثم أجمعنا على أنه لو قدم المنصوب على المرفوع في اللفظ فإنه جائز ، فكذا إذا لم يقدم مع أن ذلك التقديم جائز .

القسم الثاني : وهو أن يكون الضمير متأخرا لفظا ومعنى ، وهذا لا نزاع في صحته ، كقولك : ضرب زيد غلامه .

القسم الثالث : أن يكون الضمير متقدما في اللفظ متأخرا في المعنى وهو كقولك : ضرب غلامه زيد ، فههنا الضمير وإن كان متقدما في اللفظ لكنه متأخر في المعنى ، لأن المنصوب متأخر عن المرفوع في التقدير ، فيصير كأنك قلت : زيد ضرب غلامه فلا جرم كان جائزا .

القسم الرابع : أن يكون الضمير متقدما في المعنى متأخرا في اللفظ ، وهو كقوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه ) فإن المرفوع مقدم في المعنى على المنصوب ، فيصير التقدير : وإذ ابتلى ربه إبراهيم ، إلا أن الأمر وإن كان كذلك بحسب المعنى لكن لما لم يكن الضمير متقدما في اللفظ بل كان متأخرا لا جرم كان جائزا حسنا .

المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر : "إبراهام" بألف بين الهاء والميم ، والباقون " إبراهيم " وهما لغتان ، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة رضي الله عنه " إبراهيم ربه" برفع إبراهيم ونصب ربه ، والمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا .

المسألة الخامسة : اختلف المفسرون في أن ظاهر اللفظ هل يدل على تلك الكلمات أم لا ؟ فقال بعضهم : اللفظ يدل عليها وهي التي ذكرها الله تعالى من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بإبعاث محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن هذه الأشياء أمور شاقة ، أما الإمامة فلأن المراد منها ههنا هو النبوة ، وهذا التكليف يتضمن مشاق عظيمة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يتحمل جميع المشاق والمتاعب في تبليغ الرسالة ، وأن لا يخون في أداء شيء منها ، ولو لزمه القتل بسبب ذلك ولا شك أن ذلك من أعظم المشاق ، ولهذا قلنا : إن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره ، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف [ ص: 35 ] شدة البلوى فيه ، ثم إنه يتضمن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره ، وأما اشتغاله بالدعاء في أن يبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان ، فهذا مما يحتاج إليه إخلاص العمل لله تعالى ، وإزالة الحسد عن القلب بالكلية ، فثبت أن الأمور المذكورة عقيب هذه الآية : تكاليف شاقة شديدة ، فأمكن أن يكون المراد من ابتلاء الله تعالى إياه بالكلمات هو ذلك ، ثم الذي يدل على أن المراد ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف فلم يقبل ، وقال : إني جاعلك للناس إماما ، بل قال : ( إني جاعلك ) فدل هذا على أن ذلك الابتلاء ليس إلا التكليف بهذه الأمور المذكورة ، واعترض القاضي على هذا القول فقال : هذا إنما يجوز لو قال الله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ، ثم إنه تعالى قال له بعد ذلك : إني جاعلك للناس إماما فأتمهن ، إلا أنه ليس كذلك ، بل ذكر قوله : ( إني جاعلك للناس إماما ) بعد قوله : ( فأتمهن ) وهذا يدل على أنه تعالى امتحنه بالكلمات وأتمها إبراهيم ، ثم إنه تعالى قال له بعد ذلك : ( إني جاعلك للناس إماما ) ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط ، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، كأن الله تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء ، فأخبر الله تعالى عنه أنه ابتلاه بأمور على الإجمال ، ثم أخبر عنه أنه أتمها ، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل ، وهذا مما لا بعد فيه .

القول الثاني : أن ظاهر الآية لا دلالة فيه على المراد بهذه الكلمات وهذا القول يحتمل وجهين :

الوجه الأول : بكلمات كلفه الله بهن ، وهي أوامره ونواهيه فكأنه تعالى قال : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) مما شاء كلفه بالأمر بها .

والوجه الثاني : بكلمات تكون من إبراهيم يكلم بها قومه ، أي يبلغهم إياها ، والقائلون بالوجه الأول اختلفوا في أن ذلك التكليف بأي شيء كان على أقوال .

أحدها : قال ابن عباس : هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه وهي سنة في شرعنا ، خمس في الرأس وخمس في الجسد ، أما التي في الرأس : فالمضمضة ، والاستنشاق وفرق الرأس ، وقص الشارب ، والسواك ، وأما التي في البدن : فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء بالماء .

وثانيها : قال بعضهم : ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام ، عشر منها في سورة براءة : ( التائبون العابدون ) [التوبة : 112] إلى آخر الآية ، وعشر منها في سورة الأحزاب ( إن المسلمين والمسلمات ) [الأحزاب : 35] إلى آخر الآية ، وعشر منها في المؤمنون : ( قد أفلح المؤمنون ) [المؤمنون : 1] إلى قوله : ( أولئك هم الوارثون ) [المؤمنون : 10] وروي عشر في : ( سأل سائل ) [المعارج : 1] إلى قوله : ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ) [المعارج : 34] فجعلها أربعين سهما عن ابن عباس .

وثالثها : أمره بمناسك الحج ، كالطواف والسعي والرمي والإحرام وهو قول قتادة وابن عباس .

ورابعها : ابتلاه بسبعة أشياء : بالشمس ، والقمر ، والكواكب ، والختان على الكبر ، والنار ، وذبح الولد ، والهجرة ، فوفى بالكل فلهذا قال الله تعالى : ( وإبراهيم الذي وفى ) [النجم : 37] عن الحسن .

وخامسها : أن المراد ما ذكره في قوله : ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [البقرة : 131] .

وسادسها : المناظرات الكثيرة في التوحيد مع أبيه وقومه ومع نمروذ والصلاة والزكاة والصوم ، وقسم الغنائم ، والضيافة ، والصبر عليها . قال القفال رحمه الله : وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة وشدة ومشقة ، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ويتناول كل واحد منها ، فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ، ولو ثبتت الرواية [ ص: 36 ] في البعض دون البعض فحينئذ يقع التعارض بين هذه الروايات ، فوجب التوقف والله أعلم .

المسألة السادسة : قال القاضي : هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة ، لأن الله تعالى نبه على أن قيامه عليه الصلاة والسلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماما ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون هذا الابتلاء متقدما في الوجود على صيرورته إماما وهذا أيضا ملائم لقضايا العقول ، وذلك لأن الوفاء من شرائط النبوة لا يحصل إلا بالإعراض عن جميع ملاذ الدنيا وشهواتها وترك المداهنة مع الخلق وتقبيح ما هم عليه من الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة ، وتحمل الأذى من جميع أصناف الخلق ، ولا شك أن هذا المعنى من أعظم المشاق وأجل المتاعب ، ولهذا السبب يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم أجرا من أمته ، وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشاقة ، فلما وفى عليه الصلاة والسلام بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة .

وقال آخرون : إنه بعد النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك ، أجاب القاضي عنه بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه السلام بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك جعله نبيا مبعوثا إلى الخلق ، إذا عرفت هذه المسألة فنقول قال القاضي : يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكره الحسن من حديث الكوكب والشمس والقمر ، فإنه عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله بذلك قبل النبوة ، أما ذبح الولد والهجرة والنار فكل ذلك كان بعد النبوة ، وكذا الختان ، فإنه عليه السلام يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين سنة . ثم قال : فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله : ( أتمهن ) أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة .

المسألة السابعة : الضمير المستكن في ( فأتمهن ) في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى فقام بهن حق القيام ، وأداهن أحسن التأدية ، من غير تفريط وتوان . ونحوه : ( وإبراهيم الذي وفى ) [النجم : 37 ] وفي الأخرى لله تعالى بمعنى : فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئا .

التالي السابق


الخدمات العلمية