[ ص: 65 ]   ( 
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين   ) 
قوله تعالى : ( 
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين   ) 
اعلم أن هذا النوع الخامس من 
الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم  عليه السلام وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : موضع "إذ" نصب وفي عامله وجهان : 
الوجه الأول : أنه نصب بـاصطفيناه ، أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه : أسلم ، فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء ، فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة ، وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب ، فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة ، فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به ، فإن قيل قوله : ( 
ولقد اصطفيناه   ) إخبار عن النفس وقوله : ( 
إذ قال له ربه أسلم   ) إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحدا ؟ قلنا : هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مرارا . 
الثاني : أنه نصب بإضمار اذكر كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله . 
المسألة الثانية : اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم ؟ ومنشأ الإشكال أنه إنما يقال له : أسلم في زمان لا يكون مسلما فيه ، 
فهل كان إبراهيم  عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم ؟ فالأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث ، فلما عرف ربه قال له تعالى : ( 
أسلم قال أسلمت لرب العالمين   ) لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه ويحتمل أيضا أن يكون قوله : ( 
أسلم   ) كان قبل الاستدلال ، فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر : 
امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني 
وأصدق دلالة منه قوله تعالى : ( 
أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون   ) [الروم : 35] فجعل دلالة البرهان كلاما ، ومن الناس من قال : هذا الأمر كان بعد النبوة ، وقوله : ( 
أسلم   ) ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر . 
أحدها : الانقياد لأوامر الله تعالى ، والمسارعة إلى تلقيها بالقبول ، وترك الإعراض بالقلب واللسان ، وهو المراد من قوله : ( 
ربنا واجعلنا مسلمين لك   ) . 
وثانيها : قال 
الأصم    : "أسلم" أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار . 
وثالثها : استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى : ( 
فاعلم أنه لا إله إلا الله   ) [محمد : 19] . 
ورابعها : أن 
الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح ، وأن 
إبراهيم  عليه السلام كان عارفا بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله : ( 
أسلم   ) .