أما قوله : ( 
ما تعبدون من بعدي   ) ففيه مسألتان : 
المسألة الأولى : لفظ "ما" لغير العقلاء فكيف أطلقه في المعبود الحق؟ 
وجوابه من وجهين : 
الأول : أن "ما" عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون . 
والثاني : قوله : ( 
ما تعبدون   ) كقولك عند طلب الحد والرسم : ما الإنسان ؟ .  
[ ص: 69 ] المسألة الثانية : قوله : ( 
من بعدي   ) أما قوله : ( 
قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق   ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : هذه الآية تمسك بها فريقان من أهل الجهل : 
الأول : المقلدة قالوا : إن أبناء 
يعقوب  اكتفوا بالتقليد ، وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف . 
الثاني : التعليمية . قالوا : 
لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية ، فإنهم لم يقولوا : نعبد الإله الذي دل عليه العقل ، بل قالوا : نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباؤك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم . 
والجواب : كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي ، فليس فيها أيضا دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم ، ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلا على سبيل الاستدلال ، أقصى ما في الباب أن يقال : فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال . 
والجواب عنه من وجوه : 
أولها : أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله . 
وثانيها : أنه أقرب إلى سكون نفس 
يعقوب  عليه السلام فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له . 
وثالثها : لعل هذا إشارة إلى ذكر 
الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله : ( 
ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم   ) [البقرة : 21] وههنا مرادهم بقولهم : ( 
قالوا نعبد إلهك وإله آبائك   ) أي : نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد . 
المسألة الثانية : قال 
القفال    : وفي بعض التفاسير أن 
يعقوب  عليه السلام لما دخل 
مصر  رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته ، فقال لهم هذا القول تحريضا لهم على التمسك بعبادة الله تعالى   . 
وحكى 
القاضي  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : أن 
يعقوب  عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة ، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران ، فقال : يا بني ما تعبدون من بعدي؟ قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك ثم قال 
القاضي    : هذا بعيد لوجهين : 
الأول : أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين . 
الثاني : أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد 
يعقوب  وأنهم كانوا قوما صالحين وذلك لا يليق بحالهم . 
المسألة الثالثة : قوله : ( 
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق   ) عطف بيان لآبائك . قاله 
القفال    : وقيل أنه 
قدم ذكر إسماعيل  على إسحاق  لأن إسماعيل  كان أسن من إسحاق    . 
المسألة الرابعة : قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  رضي الله عنه : 
الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب لا يسقطون بالجد وهو قول 
عمر  وعثمان  وعلي   nindex.php?page=showalam&ids=10وعبد الله بن مسعود  وزيد  رضي الله عنهم وهو قول 
مالك  وأبي يوسف  ومحمد    . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة    : إنهم يسقطون بالجد وهو قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق   nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس   nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة  رضي الله عنهم ، ومن التابعين قول 
الحسن   nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس  وعطاء  ، أما الأولون وهم الذين يقولون : إنهم لا يسقطون بالجد فلهم قولان : 
أحدهما : أن الجد خير الأمرين : إما المقاسمة معهم أو ثلث جميع المال ، ثم الباقي بين الإخوة والأخوات   
[ ص: 70 ] للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مذهب 
 nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت  وقول 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  رضي الله عنه . 
والثاني : أنه بمنزلة أحد الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة من السدس أعطي السدس ولم ينقص منه شيء واحتج 
 nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة  على قوله بأن الجد أب والأب يحجب الأخوات والإخوة فيلزم أن يحجبهم الجد ، وإنما قلنا : إن الجد أب للآية والأثر . 
أما الآية فاثنان هذه الآية وهي قوله تعالى : ( 
قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق   ) فأطلق لفظ الأب على الجد . 
فإن قيل : فقد أطلقه في العم وهو 
إسماعيل  مع أنه بالاتفاق ليس بأب . 
قلنا : الاستعمال دليل الحقيقة ظاهرا ، ترك العمل به في حق العم لدليل قام فيه فيبقى في الباقي حجة الآية الثانية قوله تعالى مخبرا عن 
يوسف  عليه السلام : ( 
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب   ) [يوسف : 38] . 
وأما الأثر فما روى 
عطاء  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أنه قال : من شاء لاعنته عند 
الحجر الأسود  ، إن الجد أب ، وقال أيضا : ألا لا يتقي الله 
 nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت  يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ، وإذا ثبت أن الجد أب وجب أن يدخل تحت قوله تعالى : ( 
وورثه أبواه فلأمه الثلث   ) [النساء : 11] في 
استحقاق الجد الثلثين دون الإخوة كما استحقه الأب دونهم إذا كان باقيا ، قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  رضي الله عنه : لا نسلم أن الجد أب ، والدليل عليه وجوه : 
أحدها : أنكم كما استدللتم بهذه الآيات على أن الجد أب ، فنحن نستدل على أنه ليس بأب بقوله تعالى : ( 
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب   ) [البقرة : 132] فإن الله تعالى ما أدخل 
يعقوب  في بنيه لأنه ميزه عنهم ، فلو كان الصاعد في الأبوة أبا لكان النازل في البنوة ابنا في الحقيقة ، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجد ليس بأب . 
وثانيها : لو كان الجد أبا على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجده حي أن ينفى أن له أبا ، كما لا يصح في الأب القريب ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة . 
فإن قيل : اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أن رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد فلذلك صح فيه النفي . 
قلنا : لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعا لم يكن الترتيب في الوجود سببا لنفي اسم الأب عنه . 
وثالثها : لو كان الجد أبا على الحقيقة لصح القول بأنه مات وخلف أما وآباء كثيرين وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء وأرباب اللغة والتفسير . 
ورابعها : لو كان الجد أبا ولا شك أن الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجد ، ولو كان الجد أبا لكانت الجدة أما ، ولو كان كذلك لما وقعت الشبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج 
أبو بكر  رضي الله عنه إلى السؤال عنه ، فهذه الدلائل دلت على أن الجد ليس بأب . 
وخامسها : قوله تعالى : ( 
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين   ) [النساء : 11] فلو كان الجد أبا لكان ابن الابن ابنا لا محالة فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب ، فأما الآيات التي تمسكتم بها في بيان أن الجد أب فالجواب عن وجه التمسك بها من وجوه : 
أولها : أنه قرأ 
أبي    : ( وإله إبراهيم ) بطرح آبائك إلا أن هذا لا يقدح في الغرض لأن القراءة الشاذة لا تدفع القراءة المتواترة ، بل الجواب أن يقال : إنه أطلق لفظ الأب على الجد وعلى العم ؛ وقال عليه الصلاة والسلام في 
العباس    : "هذا بقية آبائي" وقال : "ردوا علي أبي" فدلنا ذلك على أنه ذكره على سبيل   
[ ص: 71 ] المجاز ، والدليل عليه ما قدمنا أنه يصح نفي اسم الأب عن الجد ، ولو كان حقيقة لما كان كذلك ، وأما قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  فإنما أطلق الاسم عليه نظرا إلى الحكم لا إلى الاسم اللغوي لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أرباب اللسان والله أعلم . 
أما قوله تعالى : ( 
إلها واحدا   ) فهو بدل ( 
وإله آبائك   ) كقوله : ( 
بالناصية ناصية كاذبة   ) [العلق : 16 ، 15] أو على الاختصاص ، أي تريد بإله آبائك إلها واحدا ، أما قوله : ( 
ونحن له مسلمون   ) ففيه وجوه : 
أحدها : أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في "له" . 
وثانيها : يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد . 
وثالثها : أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة ، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون . 
أما قوله تعالى : ( 
تلك أمة قد خلت   ) فهو إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة ، وهم 
إبراهيم  وإسماعيل  وإسحاق  ويعقوب  وبنوه الموحدون . و "الأمة" الصنف . "خلت" سلفت ومضت وانقرضت ، والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه ، فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم ، والآية دالة على مسائل : 
المسألة الأولى : الآية دالة على بطلان التقليد ، لأن قوله : ( 
لها ما كسبت   ) يدل على أن 
كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره ، ولو كان التقليد جائزا لكان كسب المتبوع نافعا للتابع ، فكأنه قال : إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلبا منكم أن تقلدوهم ، ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق . 
المسألة الثانية : الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان ، واتباع 
محمد  عليه الصلاة والسلام ، وتحذيرهم من مخالفته .