1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه
صفحة جزء
أما قوله : ( إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : اللام في قوله : ( إلا لنعلم ) لام الغرض ، والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح ؟ وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام فقد تقدم .

المسألة الثانية : وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم ، كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلا ، فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم ، وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها ، ونظيره في الإشكال قوله : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) [ محمد : 31 ] وقوله : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) [ الأنفال : 66 ] وقوله : ( لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] وقوله : ( فليعلمن الله الذين صدقوا ) [ العنكبوت : 3 ] وقوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [ آل عمران : 142 ] وقوله : ( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ) [ سبأ : 21 ] والكلام في هذه المسألة مر مستقصى في قوله : ( وإذ ابتلى ) والمفسرون أجابوا عنه من وجوه :

[ ص: 95 ] أحدها : أن قوله : ( إلا لنعلم ) معناه : إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك : فتحنا البلدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا ، ومنه يقال : فتح عمر السواد ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - فيما يحكيه عن ربه : " استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول : وادهراه وأنا الدهر " وفي الحديث : " من أهان لي وليا فقد أهانني " .

وثانيها : معناه : ليحصل المعدوم فيصير موجودا ، فقوله : ( إلا لنعلم ) معناه : إلا لنعلمه موجودا ، فإن قيل : فهذا يقتضي حدوث العلم ، قلنا : اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد ، الخلاف فيه مشهور .

وثالثها : إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق ، فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون ، فسمى التمييز علما ؛ لأنه أحد فوائد العلم وثمراته .

ورابعها : ( إلا لنعلم ) معناه : إلا لنرى ، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم كقوله : ( ألم تر كيف ) ورأيت ، وعلمت ، وشهدت ، ألفاظ متعاقبة .

وخامسها : ما ذهب إليه الفراء : وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، ومثاله أن جاهلا وعاقلا اجتمعا ، فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار ، ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب ، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه : لنعلم أينا الجاهل ، فكذلك قوله : ( إلا لنعلم ) إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام : الاستمالة والرفق في الخطاب ، كقوله : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى ) [ سبأ : 24 ] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسك ترقيقا للخطاب ورفقا بالمخاطب ، فكذا قوله : ( إلا لنعلم ) .

وسادسها : نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم ، إذ العدل يوجب ذلك .

وسابعها : أن العلم صلة زائدة ، فقوله : ( إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) معناه : إلا ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين ، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني ، أي ما كان هذا مني ، والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله .

المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها ، فمن الناس من قال : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي إلى الكعبة ، فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم ، وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا : هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه ، روى القفال عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم ، وقالوا : مرة هاهنا ومرة هاهنا ، وقال السدي : لما توجه النبي - عليه الصلاة والسلام - نحو المسجد الحرام اختلف الناس ؛ فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها ، وقال المسلمون : لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، وقال المشركون : تحير في دينه ، [ ص: 96 ] واعلم أن هذا القول الأخير أولى ؛ لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة ، وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة ، فقال : ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) فكان حمله عليه أولى .

المسألة الرابعة : قوله : ( ممن ينقلب على عقبيه ) استعارة ، ومعناه : من يكفر بالله ورسوله ، ووجه الاستعارة : أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصفوا بذلك ، كما قال تعالى : ( ثم أدبر واستكبر ) [ المدثر : 23 ] وكما قال : ( كذب وتولى ) [ طه : 48 ] وكل ذلك تشبيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية