صفحة جزء
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى : ( وبشر الصابرين ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن الصبر واجب على هذه الأمور إذا كان من قبله تعالى ؛ لأنه يعلم أن كل ذلك عدل وحكمة ، فأما من لم يكن محققا في الإيمان كان كمن قال فيه : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) [ الحج : 11 ] فأما ما يكون من جانب الظلمة فلا يجب الصبر عليه ، مثاله : أن المراهق يلزمه أن يصبر على ما يفعله به أبوه من التأديب ، ولو فعله به غيره لكان له أن يمانع بل يحارب ، وكذا في العبد مع مولاه فما يدبر تعالى عباده عليه ، ليس ذلك إلا حكمة وصوابا بخلاف ما يفعل العباد من الظلم .

المسألة الثانية : الخطاب في ( وبشر ) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يتأتى منه البشارة .

المسألة الثالثة : قال الشيخ الغزالي - رحمه الله - : اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة ، أما في البهائم فلنقصانها ، وأما في الملائكة فلكمالها ، بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات ، وليس لشهواتها عقل يعارضها ، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا ، وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية ، والابتهاج بدرجة القرب منها ، ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها ، حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر ، وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة ، ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ، ثم يظهر فيه شهوة اللعب ، ثم شهوة النكاح ، وليس له قوة الصبر البتة ، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر ، قام [ ص: 138 ] القتال بينهما لتضاد مطالبهما ، أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة ، والإعراض عن الدار الآخرة ، وعقلا يدعوه إلى الإعراض عنها ، وطلب اللذات الروحانية الباقية ، فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة [ مانعة له ] عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية ، صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل ، فيسمى ذلك الصد والمنع صبرا ، ثم اعلم أن الصبر ضربان . أحدهما : بدني ، كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه ، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم .

والثاني : هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع ، ثم هذا الضرب إن كان صبرا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر ، فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع ، وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها ، وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى : البطر . وإن كان في حرب ومقاتلة يسمى : شجاعة ، ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى : حلما ، ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي : سعة الصدر ، ويضاده الضجر والندم وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام يسمى : كتمان النفس ويسمى صاحبه : كتوما ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا ، ويضاده الحرص ، وإن كان على قدر يسير من المال سمي بالقناعة ويضاده الشره ، وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى الكل صبرا فقال : ( والصابرين في البأساء ) [ البقرة : 177 ] أي : المصيبة . ( والضراء ) أي : الفقر : ( وحين البأس ) [ البقرة : 177 ] أي : المحاربة : ( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [ البقرة : 177 ] قال القفال - رحمه الله - : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن ، إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابرا ، وإن ظهر دمع عين أو تغير لون ، قال - عليه السلام - : " الصبر عند الصدمة الأولى " وهو كذلك ؛ لأن من ظهر منه في الابتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر ، فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه ، قال الحسن : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية