صفحة جزء
الفصل الثاني

في معرفة الأفلاك

القوم وضعوا لأنفسهم مقدمتين ظنيتين :

إحداهما : أن حركات الأجرام السماوية متساوية متصلة ، وأنها لا تبطئ مرة وتسرع أخرى ، وليس لها رجوع عن متوجهاتها .

والثانية : أن الكواكب لا تتحرك بذاتها ، بل بتحرك الفلك ، ثم إنهم بنوا على هاتين المقدمتين مقدمة أخرى فقالوا : الفلك الذي يحمل الكواكب إما أن يكون مركزه مركز الأرض أو لا يكون ، فإن كان مركزه الأرض ، فإما أن يكون الكوكب مركوزا في ثخنه ، أو مركوزا في جرم مركوز في ثخن ذلك الفلك ، فإن كان الأول استحال أن يختلف قرب الكوكب وبعده من الأرض ، وأن يختلف قطعه للقسي من ذلك الفلك ، والأعراض الاختلاف في حركة الفلك ، أو حركة الكوكب ، وقد فرضنا أنهما لا يوجدان البتة ، فبقي القسمان الآخران :

أحدهما : أن يكون الكوكب مركوزا في جرم كروي مستدير الحركة ، مغروز في ثخن الفلك المحيط بالأرض ، وذلك الجرم نسميه بالفلك المستدير ، فحينئذ يعرض بسبب حركته اختلاف حال الكوكب بالنسبة إلى الأرض تارة بالقرب والبعد وتارة بالرجوع والاستقامة ، وتارة بالصغر والكبر في المنظر ، وإما أن يكون الفلك المحيط بالأرض ليس مركزه موافقا لمركز الأرض ، فهو الفلك الخارج المركز ، ويلزم أن يكون الحامل في أحد نصفي فلك البروج من ذلك الفلك أعظم من النصف ، وفي نصفه الآخر أقل من النصف ، فلا جرم يحصل بسببه القرب والبعد من الأرض ، وأن يقطع أحد نصفي البروج في زمان أكثر من قطعه النصف الآخر ، فظهر أن اختلاف أحوال الكواكب في صغرها وكبرها وسرعتها وبطئها ، وقربها وبعدها من الأرض لا يمكن حصوله إلا بأحد هذين الشيئين ، أعني التدوير والفلك الخارج المركز .

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى التفصيل : قولهم في الأفلاك ، فقالوا : هذه الأفلاك التسعة ، منها ما هو كرة [ ص: 167 ] واحدة ، وهو الفلك الأعظم ، وفلك الثوابت ، ومنها ما ينقسم إلى كرتين ، وهو فلك الشمس ، وذلك أنه ينفصل منه فلك آخر مركزه غير مركز العالم ، بحيث يتماس سطحاهما المحدبان على نقطة تسمى الأوج ، وهو البعد الأبعد من الفلك المنفصل ، ويتماس سطحاهما المقعران على نقطة تسمى الحضيض ، وهو البعد الأقرب منه ، وهما في الحقيقة فلك واحد ، منفصل عنه فلك آخر ، إلا أنه يقال : فلكان توسعا ، ويسمى المنفصل عنه الفلك الممثل ، والمنفصل الخارج المركز فلك الأوج ، وجرم الشمس مغرق فيه بحيث يماس سطحه سطحيه ، ومنها ما ينقسم إلى ثلاث أكر ، وهي أفلاك الكواكب العلوية والزهرة ، فإن لكل واحد منهما فلكين مثل فلك الشمس ، وفلكا آخر موقعه من خارج المركز مثل موقع جرم الشمس من فلكه ويسمى : فلك التدوير ، والكوكب مغرق فيه بحيث يماس سطحه ، ويسمى الخارج المركز الفلك الحامل ، ومنها ما ينقسم إلى أربع أكر ، وهو فلك عطارد والقمر ، أما عطارد فإن له فلكين مثل فلكي الشمس ، وينفصل من الثاني فلك آخر انفصال الخارج المركز عن الممثل بحيث يقع مركزه خارجا عن المركزين ، وبعده عن مركز الخارج المركز مثل نصف بعد ما بين مركزي الخارج المركز والممثل ويسمى المنفصل عنه الفلك المدير ، والمنفصل الفلك الحامل ، ومنه فلك التدوير وعطارد فيه كما سبق في الكرات الأربعة ، وأما القمر فإن فلكه ينقسم إلى كرتين متوازيتين ، والعظمى الفلك المثل ، والصغرى الفلك المائل ، وينقسم المائل إلى ثلاث أكر كما في الكواكب الأربعة ، وكل فلك ينفصل عنه فلك آخر على الصورة التي عرفتها في فلك الشمس ، فإنه يبقى من المنفصل عنه كرتان مختلفتا الثخن يسميان متممين لذلك الفلك المنفصل ، وكل واحد من هذه الأفلاك يتحرك على مركزه حركة دائمة متصلة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ، والناس إنما وصلوا إلى معرفة هذه الكرات بناء على المقدمة التي قررناها ، ولا شك أنها لو صحت لصح القول بهذه الأشياء إنما الشأن فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية