صفحة جزء
النوع السادس من الآيات : قوله تعالى : ( وبث فيها من كل دابة ) ونظيره جميع الآيات الدالة على خلقة الإنسان ، وسائر الحيوانات ، كقوله : ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) [ النساء : 1 ) .

واعلم أن حدوث الحيوانات قد يكون بالتوليد ، وقد يكون بالتوالد ، وعلى التقديرين فلا بد فيهما من الصانع الحكيم فلنبين ذلك في الناس ثم في سائر الحيوانات .

أما الإنسان فالذي يدل على افتقاره في حدوثه إلى الصانع وجوه :

أحدها : يروى أن واحدا قال عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أتعجب من أمر الشطرنج ، فإن رقعته ذراع في ذراع ، ولو [ ص: 180 ] لعب الإنسان ألف ألف مرة ، فإنه لا يتفق مرتان على وجه واحد . فقال عمر بن الخطاب : ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيها كالحاجبين والعينين والأنف والفم ، لا يتغير البتة ، ثم إنك لا ترى شخصين في الشرق والغرب يشتبهان ، فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها .

وثانيها : أن الإنسان متولد من النطفة ، فالمؤثر في تصوير النطفة وتشكيلها قوة موجودة في النطفة أو غير موجودة فيها ، فإن كانت القوة المصورة فيها فتلك القوة إما أن يكون لها شعور وإدراك وعلم وحكمة حتى تمكنت من هذا التصوير العجيب ، وأما أن لا تكون تلك القوة كذلك ، بل يكون تأثيرها بمجرد الطبع والعلية ، والأول ظاهر الفساد ؛ لأن الإنسان حال استكماله أكثر علما وقدرة ، ثم إنه حال كماله لو أراد أن يغير شعرة عن كيفيتها لا يقدر على ذلك ، فحال ما كان في نهاية الضعف كيف يقدر على ذلك !

وأما إن كانت تلك القوة مؤثرة بالطبع ، فهذا المعنى إما أن يكون جسما متشابه الأجزاء في نفسه ، أو يكون مختلف الأجزاء ، فإن كان متشابه الأجزاء فالقوة الطبيعية إذا عملت في المادة البسيطة ، لا بد وأن يصدر منه فعل متشابه ، وهذا هو الكرة ، فكان ينبغي أن يكون الإنسان على صورة كرة ، وتكون جميع الأجزاء المفترضة في تلك الكرة متشابهة في الطبع ، وهذا هو الذي يستدلون به على أن البسائط لا بد وأن تكون كرات ، فثبت أنه لا بد للنطفة في انقلابها لحما ودما وإنسانا من مدبر ومقدر لأعضائها وقواها وتراكيبها ، وما ذاك إلا الصانع سبحانه وتعالى .

وثالثها : الاستدلال بأحوال تشريح أبدان الحيوانات والعجائب الواقعة في تركيبها وتأليفها ، وإيراد ذلك في هذا الموضع كالمتعذر لكثرتها ، واستقصاء الناس في شرحها في الكتب المعمولة في هذا الفن .

ورابعها : ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم . ومن عجائب الأمر في هذا التركيب أن أهل الطبائع قالوا : أعلى العناصر يجب أن يكون هو النار ؛ لأنها حارة يابسة ، وأدون منها في اللطافة الهواء ثم الماء ، والأرض لا بد وأن تكون تحت الكل لثقلها وكثافتها ويبسها ، ثم إنهم قلبوا هذه القضية في تركيب بدن الإنسان ؛ لأن أعلى الأعضاء منه عظم القحف ، والعظم بارد يابس على طبيعة الأرض ، وتحته الدماغ وهو بارد رطب على طبع الماء ، وتحته النفس وهو حار رطب على طبع الهواء ، وتحت الكل : القلب ، وهو حار يابس على طبع النار ، فسبحان من بيده قلب الطبائع يرتبها كيف يشاء ، ويركبها كيف أراد .

ومما ذكرنا في هذا الباب أن كل صانع يأتي بنقش لطيف فإنه يصونه عن التراب ؛ كي لا يكدره ، وعن الماء كي لا يمحوه ، وعن الهواء كي لا يزيل طراوته ولطافته ، وعن النار كيلا تحرقه ، ثم إنه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء ، فقال : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) [ آل عمران : 59 ] وقال : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) [ الأنبياء : 30 ] وقال في الهواء : ( فنفخنا فيه من روحنا ) [ التحريم : 12 ] وقال أيضا : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها ) [ المائدة : 110 ] وقال : ( ونفخت فيه من روحي ) [ الحجر : 29 ] وقال في النار : ( وخلق الجان من مارج من نار ) [ الرحمن : 15 ) وهذا يدل على أن صنعه بخلاف صنع كل أحد .

وخامسها : انظر إلى الطفل بعد انفصاله من الأم ، فإنك لو وضعت على فمه وأنفه ثوبا يقطع نفسه لمات في الحال ، ثم إنه بقي في الرحم الضيق مدة مديدة ، مع تعذر النفس هناك ولم يمت ، ثم إنه بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء وأبعدها عن الفهم ، بحيث لا يميز بين الماء والنار ، [ ص: 181 ] وبين المؤذي والملذ ، وبين الأم وبين غيرها ، ثم إن الإنسان وإن كان في أول أمره من أبعد الأشياء عن الفهم ، فإنه بعد استكماله أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ، ليعلم أن ذلك من عطية القادر الحكيم ، فإنه لو كان الأمر بالطبع لكان كل من كان أذكى في أول الخلقة كان أكثر فهما وقت الاستكمال ، فلما لم يكن الأمر كذلك ، بل كان على الضد منه ، علمنا أن كل ذلك من عطية الله الخالق الحكيم .

وسادسها : اختلاف الألسنة واختلاف طبائعهم ، واختلاف أمزجتهم من أقوى الدلائل ، ونرى الحيوانات البرية والجبلية شديدة المشابهة بعضها بالبعض ، ونرى الناس مختلفين جدا في الصورة ، ولولا ذلك لاختلت المعيشة ، ولاشتبه كل أحد بأحد ، فما كان يتميز البعض عن البعض ، وفيه فساد المعيشة . واستقصاء الكلام في هذا النوع لا مطمع فيه ؛ لأنه بحر لا ساحل له .

التالي السابق


الخدمات العلمية