صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : في البحث عن ماهية محبة العبد لله تعالى : اعلم أنه لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة ، وهي أن العبد قد يحب الله تعالى ، والقرآن ناطق به ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله : ( يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] وكذا الأخبار ، روي أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت عليه السلام وقد جاءه لقبض روحه : هل رأيت خليلا يميت خليله ؟ فأوحى الله تعالى إليه : هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله ؟ فقال : يا ملك الموت الآن فاقبض .

وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال : ما أعددت لها ؟ فقال : ما أعددت كثير صلاة ولا صيام ، إلا أني أحب الله ورسوله . فقال عليه الصلاة والسلام : المرء مع من أحب . فقال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك .

وروي أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر ، وقد نحلت أبدانهم ، وتغيرت ألوانهم ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم إلى ما أرى ؟ فقالوا : الخوف من النار ، فقال : حق على الله أن يؤمن الخائف . ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشد نحولا وتغيرا ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام ؟ قالوا : الشوق إلى الجنة . فقال : حق على الله أن يعطيكم ما ترجون . ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا ، كأن وجوههم المرايا من النور ، فقال : كيف بلغتم إلى هذه الدرجة ؟ قالوا : بحب الله . فقال عليه الصلاة والسلام : أنتم المقربون إلى الله يوم القيامة .

وعند السدي قال : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها ، فيقال : يا أمة موسى ، ويا أمة عيسى ، ويا أمة محمد ، غير المحبين منهم ، فإنهم ينادون : يا أولياء الله ، وفي بعض الكتب : عبدي أنا - وحقك - لك محب ، فبحقي عليك كن لي محبا .

واعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة ، لكنهم اختلفوا في معناها ، فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته ، فإذا قلنا : نحب الله ، فمعناه نحب طاعة الله وخدمته ، أو نحب ثوابه وإحسانه ، وأما العارفون فقد قالوا : العبد قد يحب الله تعالى لذاته ، وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة ، واحتجوا [ ص: 186 ] بأن قالوا : إنا وجدنا أن اللذة محبوبة لذاتها ، والكمال أيضا محبوب لذاته ، أما اللذة فإنه إذا قيل لنا : لم تكتسبون ؟ قلنا : لنجد المال ، فإن قيل : ولم تطلبون المال ؟ قلنا : لنجد به المأكول والمشروب ، فإن قالوا : لم تطلبون المأكول والمشروب ؟ قلنا : لتحصل اللذة ويندفع الألم ، فإن قيل لنا : ولم تطلبون اللذة وتكرهون الألم ؟ قلنا : هذا غير معلل ؛ فإنه لو كان كل شيء إنما كان مطلوبا لأجل شيء آخر ، لزم إما التسلسل ، وإما الدور ، وهما محالان ، فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون مطلوبا لذاته ، وإذا ثبت ذلك فنحن نعلم أن اللذة مطلوبة الحصول لذاتها ، والألم مطلوب الدفع لذاته ، لا لسبب آخر ، وأما الكمال فلأنا نحب الأنبياء والأولياء لمجرد كونهم موصوفين بصفات الكمال ، وإذا سمعنا حكاية بعض الشجعان مثل رستم ، وإسفنديار ، واطلعنا على كيفية شجاعتهم مالت قلوبنا إليهم ، حتى إنه قد يبلغ ذلك الميل إلى إنفاق المال العظيم في تقرير تعظيمه ، وقد ينتهي ذلك إلى المخاطرة بالروح ، وكون اللذة محبوبة لذاتها لا ينافي كون الكمال محبوبا لذاته .

إذا ثبت هذا فنقول : الذين حملوا محبة الله تعالى على محبة طاعته ، أو على محبة ثوابه ، فهؤلاء هم الذين عرفوا أن اللذة محبوبة لذاتها ، ولم يعرفوا أن الكمال محبوب لذاته ، أما العارفون الذين قالوا : إنه تعالى محبوب في ذاته ولذاته ، فهم الذين انكشف لهم أن الكمال محبوب لذاته ؛ وذلك لأن أكمل الكاملين هو الحق سبحانه وتعالى ، فإنه لوجوب وجوده غني عن كل ما عداه ، وكمال كل شيء فهو مستفاد منه ، وإنه سبحانه وتعالى أكمل الكاملين في العلم والقدرة ، فإذا كنا نحب الرجل العالم لكماله في علمه ، والرجل الشجاع لكماله في شجاعته ، والرجل الزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال ، فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى علمه كالعدم ، وجميع القدر بالنسبة إلى قدرته كالعدم ، وجميع ما للخلق من البراءة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم ، فلزم القطع بأن المحبوب الحق هو الله تعالى ، وأنه محبوب في ذاته ولذاته ، سواء أحبه غيره أو ما أحبه غيره ، واعلم أنك لما وقفت على النكتة في هذا الباب ، فنقول : العبد لا سبيل له إلى الاطلاع على الله سبحانه ابتداء ، بل ما لم ينظر في مملوكاته لا يمكنه الوصول إلى ذلك المقام ، فلا جرم كل من كان اطلاعه على دقائق حكمة الله وقدرته في المخلوقات أتم ، كان علمه بكماله أتم ، فكان له حبه أتم ، ولما كان لا نهاية لمراتب وقوف العبد على دقائق حكمة الله تعالى ، فلا جرم لا نهاية لمراتب محبة العباد لجلال حضرة الله تعالى .

ثم تحدث هناك حالة أخرى ، وهي أن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى ، كثر ترقيه في مقام محبة الله ، فإذا كثر ذلك صار ذلك سببا لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد ، وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة ، فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف القلب بكيفيتها ، واشتد ألفه بها ، وكلما كان ذلك الألف أشد كانت النفرة عما سواه أشد ؛ لأن الالتفات إلى ما عداه يشغله عن الالتفات إليه ، والمانع عن حضور المحبوب مكروه ، فلا تزال تتعاقب محبة الله ونفرته عما سواه على القلب ، ويشتد كل واحد منهما بالآخر ، إلى أن يصير القلب نفورا عما سوى الله تعالى ، والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله ، والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى ، فيصير ذلك القلب مستنيرا بأنوار القدس ، مستضيئا بأضواء عالم العصمة فانيا عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث ، وهذا المقام أعلى الدرجات ، وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان ، فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال ، فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس [ ص: 187 ] فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية .

التالي السابق


الخدمات العلمية