صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال أبو عبيدة والزجاج " التهلكة " الهلاك يقال : هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة . قال الخارزنجي : لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة بضم العين إلا هذا ، قال أبو علي : قد حكى سيبويه : التنصرة والتسترة ، وقد جاء هذا المثال اسما غير مصدر ، قال : ولا نعلمه جاء صفة . قال صاحب " الكشاف " : ويجوز أن يقال أصله التهلكة ، كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة ، كما جاء الجوار في الجوار .

وأقول : إني لأتعجب كثيرا من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعرا مجهولا يشهد لما أرادوه فرحوا به ، واتخذوه حجة قوية ، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة ، أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها .

المسألة الثانية : اتفقوا على أن الباء في قوله : ( بأيديكم ) تقتضي إما زيادة أو نقصانا ، فقال قوم : الباء زائدة ، والتقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة . وهو كقوله : جذبت الثوب بالثوب ، وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان ، أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله : ( بما قدمت يداك ) [ الحج : 10 ] أو ( فبما كسبت أيديكم ) [ الشورى : 30 ] ، فالتقدير : ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وقال آخرون : بل ههنا حذف ، والتقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة .

المسألة الثالثة : قوله : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) اختلف المفسرون فيه ، فمنهم من قال : إنه راجع إلى نفس النفقة ، ومنهم من قال : إنه راجع إلى غيرها ، أما الأولون فذكروا فيه وجوها :

الأول : أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم ، فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، وكأنه قيل : إن كنت من رجال الدين أنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته ، وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك .

الوجه الثاني : أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله ، فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس ، فكان المراد منه ما ذكره في قوله : [ ص: 117 ] ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : 67 ] وفي قوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ الإسراء : 29 ] وأما الذين قالوا : المراد منه غير النفقة فذكروا فيه وجوها :

أحدها : أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار ؛ فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله : ( ليهلك من هلك عن بينة ) [ الأنفال : 42 ] .

وثانيها : المراد من قوله : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ، أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع ، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل ، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأما إذا كان آيسا من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول ، فليس له أن يقدم عليه ، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب ، ونقل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقل بين الصفين ، ومن الناس من طعن في هذا التأويل ، وقال : هذا القتل غير محرم ، واحتج عليه بوجوه :

الأول : روي أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة ؛ فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا ومصالحنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد .

والثاني : روى الشافعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنة ، فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابرا محتسبا ؟ قال عليه الصلاة والسلام : لك الجنة ، فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله ، وأن رجلا من الأنصار ألقى درعا كانت عليه حين ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام - الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه .

والثالث : روي أن رجلا من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه ، فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم ، فقال فيه قولا حسنا .

الرابع : روي أن قوما حاصروا حصنا ، فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة ، فبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذلك فقال : كذبوا أليس يقول الله تعالى ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) [ البقرة : 207 ] ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول : إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم ، فأما إذا توقع فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم إنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع .

الوجه الثالث : في تأويل الآية أن يكون هذا متصلا بقوله : ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) [ البقرة : 194 ] أي فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص ، فجازوا اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة .

الوجه الرابع في التأويل أن يكون المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شيء ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلانا هالكا وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك .

الوجه الخامس : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة ، فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب .

الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط ، وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلا يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة ، ونظيره قوله تعالى : [ ص: 118 ] ( ولا تبطلوا أعمالكم ) [ محمد : 33 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية