صفحة جزء
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( وأتموا ) أمر بالإتمام ، وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه ؟ ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق ، والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام .

والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه : إن هذا الأمر مشروط ، والمعنى أن من شرع فيه فليتمه ، قالوا : ومن [ ص: 119 ] الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجبا إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجبا ، وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا ، وغير واجبة عند أبي حنيفة رحمه الله .

حجة أصحابنا من وجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وجه الاستدلال به أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملا تاما ، ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه ، وإذا ثبت الاحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك ، أما بيان الاحتمال فيدل عليه قوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) [ البقرة : 124 ] أي فعلهن على سبيل التمام والكمال ، وقوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) [ البقرة : 187 ] أي فافعلوا الصيام تاما إلى الليل ، وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال : المراد فاشرعوا في الصيام ثم أتموه ، لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار ، وعلى التقدير الذي ذكرناه لا يحتاج إليه فثبت أن قوله : ( وأتموا الحج ) يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه ، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضا أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه ، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطا ، ويكون التقدير : أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما ، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط ، فكان ذلك أولى .

والثاني : أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه .

الثالث : قرأ بعضهم ( وأقيموا الحج والعمرة لله ) وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد لكنه بالاتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل .

الرابع : أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة ، ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما ، والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب ، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة ، فكان حمل كلام الله عليه أولى .

الخامس : أن الباب باب العبادة فكان الاحتياط فيه أولى ، والقول بإيجاب الحج والعمرة معا أقرب إلى الاحتياط ، فوجب حمل اللفظ عليه .

السادس : هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام ، لكنا نقول : اللفظ دل على وجوب الإتمام جزما ، وظاهر الأمر للوجوب فكان الإتمام واجبا جزما والإتمام مسبوق بالشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب ، فيلزم أن يكون الشروع واجبا في الحج وفي العمرة .

السابع : روي عن ابن عباس أنه قال : والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله ، أي أن العمرة لقرينة الحج في الأمر في كتاب الله يعني في هذه الآية فكان كقوله : ( أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) [ الحج : 41 ] فهذا تمام تقرير هذه الحجة .

فإن قيل : قرأ علي وابن مسعود والشعبي " والعمرة لله " بالرفع وهذا يدل على أنهم قصدوا إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب .

قلنا : هذا مدفوع من وجوه :

الأول : أن هذه قراءة شاذة فلا تعارض القراءة المتواترة .

الثاني : أن فيها ضعفا في العربية ، لأنها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية .

الثالث : أن قوله : ( والعمرة لله ) معناه أن العمرة عبادة الله ، ومجرد كونها عبادة الله لا ينافي وجوبها ، وإلا وقع التعارض بين مدلول القراءتين ، وهو غير جائز .

الرابع : أنه لما كان قوله : ( والعمرة لله ) معناه : والعمرة عبادة الله ، وجب [ ص: 120 ] أن يكون العمرة مأمورا بها لقوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله ) [ البينة : 5 ] والأمر للوجوب ، وحينئذ يحصل المقصود .

الحجة الثانية في وجوب العمرة : أن قوله تعالى : ( يوم الحج الأكبر ) [ التوبة : 3 ] يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل ، وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق ، وإذا ثبت أن العمرة حج ، وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى : ( وأتموا الحج ) ، ولقوله : ( ولله على الناس حج البيت ) [ آل عمران : 97 ] .

الحجة الثالثة : في المسألة أحاديث منها ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أن جبريل عليه السلام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام ، فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنمحمدا رسول الله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج وتعتمر . وروى النعمان بن سالم عن عمر بن أوس ، عن أبي رزين أنه سأل النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ، ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ، فقال - عليه الصلاة والسلام : حج عن أبيك واعتمر ، فأمر بهما ، والأمر للوجوب ، ومنها ما روى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت " ، ومنها ما روت عائشة بنت طلحة - رضي الله عنها - عن عائشة أم المؤمنين ، قالت : قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة .

الحجة الرابعة : في وجوب العمرة ، قال الشافعي رضي الله عنه : اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب ، وحجة من قال العمرة ليست واجبة وجوه :

الحجة الأولى : قصد الأعرابي الذي سأل الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، فقال الأعرابي : هل علي غير هذا ؟ قال : لا إلا أن تطوع ، فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : أفلح الأعرابي إن صدق . وقال عليه الصلاة والسلام : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت " . وقال عليه الصلاة والسلام : " صلوا خمسكم وزكوا أموالكم وحجوا بيتكم تدخلوا جنة ربكم " ، فهذه أخبار مشهورة كالمتواترة فلا يجوز الزيادة عليها ولا ردها ، وعن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا ؟ فقال : لا وإن تعتمر خير لك ، وعن معاوية الضرير عن أبي صالح الحنفي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج جهاد والعمرة تطوع " .

والجواب من وجوه :

أحدها : أن ما ذكرتم أخبار آحاد فلا تعارض القرآن .

وثانيها : لعل العمرة ما كانت واجبة عندما ذكر الرسول - عليه الصلاة والسلام - تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وهذا هو الأقرب ، لأن هذه الآية إنما نزلت في السنة السابعة من الهجرة .

وثالثها : أن قصة الأعرابي مشتملة على ذكر الحج وليس فيها بيان تفصيل الحج ، وقد بينا أن العمرة حج لأنها هي الحج الأصغر ، فلا تكون هي منافية لوجوب العمرة ، وأما حديث محمد بن المنكدر ، فقالوا : رواية حجاج بن أرطاة وهو ضعيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية