صفحة جزء
المسألة الخامسة : قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو عمر وأبو بكر عن عاصم " الحج " بفتح الحاء في كل القرآن وهي لغة الحجاز ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص ، عن عاصم بالكسر في آل عمران ، قال [ ص: 124 ] الكسائي : وهما لغتان بمعنى واحد ، كرطل ورطل ، وقيل : بالفتح المصدر ، وبالكسر الاسم .

وقوله تعالى : ( فإن أحصرتم ) قال أحمد بن يحيى : أصل الحصر والإحصار : الحبس ، ومنه يقال للذي لا يبوح بسره : حصر ؛ لأنه حبس نفسه عن البوح ، والحصر احتباس الغائط ، والحصير الملك ؛ لأنه كالمحبوس بين الحجاب ، وفي شعر لبيد :

جن لدى باب الحصير قيام



والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض تشبيها باحتباس الشيء مع غيره .

إذا عرفت هذا فنقول : اتفقوا على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه ، أمالفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال .

الأول : وهو اختيار أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض ، قال ابن السكيت : يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر ، وقال ثعلب في فصيح الكلام : " أحصر " بالمرض " وحصر " بالعدو .

والقول الثاني : أن لفظ الإحصار يفيد الحبس والمنع ، سواء كان بسبب العدو أو بسبب المرض وهو قول الفراء . والقول الثالث : أنه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو ، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر ، فإنهما قالا : لا حصر إلا حصر العدو ، وأكثر أهل اللغة يردون هذا القول على الشافعي رضي الله عنه ، وفائدة هذا البحث تظهر في مسألة فقهية ، وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت ، وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع ؟ قال أبو حنيفة رضي الله عنه : يثبت . وقال الشافعي : لا يثبت . وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة وذلك لأن أهل اللغة رجلان :

أحدهما : الذين قالوا : الإحصار مختص بالحبس الحاصل بسبب المرض فقط ، وعلى هذا المذهب تكون هذه الآية نصا صريحا في أن إحصار المرض يفيد هذا الحكم .

والثاني : الذين قالوا : الإحصار اسم لمطلق الحبس سواء كان حاصلا بسبب المرض أو بسبب العدو ، وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضا ، لأن الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار ، فوجب أن يكون الحكم ثابتا عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض ، وأما على القول الثالث : وهو أن الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو ، فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة ، وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج ، وهذا قياس جلي ظاهر ، فهذا تقرير قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - وهو ظاهر قوي ، وأما تقرير مذهب الشافعي رضي الله عنه ، فهو أنا ندعي أن المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط ، والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر ، ولا شك أن قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن ، ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل .

الحجة الأولى : أن الإحصار إفعال من الحصر ، والإفعال تارة يجيء بمعنى التعدية ، نحو : ذهب زيد وأذهبته أنا ، ويجيء بمعنى صار ذا كذا ، نحو : أغد البعير إذا صار ذا غدة ، وأجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى ، ويجيء بمعنى وجدته بصفة كذا ، نحو : أحمدت الرجل أي وجدته محمودا ، والإحصار لا يمكن أن [ ص: 125 ] يكون للتعدية ، فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى : أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين ، ثم إن أهل اللغة اتفقوا على أن المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض ، فوجب أن يكون معنى الإحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو ، أو وجدوا ممنوعين بالعدو ، وذلك يؤكد مذهبنا .

الحجة الثانية : أن الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان : إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده ، إذا كان قادرا عن ذلك الفعل متمكنا منه ، ثم إنه منعه مانع عنه ، والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء ، وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر البتة على الفعل ، فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع ؛ لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي ، أما إذا كان ممنوعا بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة ، إلا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو ، فصح ههنا أن يقال إنه ممنوع من الفعل ، فثبت أن لفظة الإحصار حقيقة في العدو ، ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض .

الحجة الثالثة : أن معنى قوله : ( أحصرتم ) أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس ، والمنع لا بد له من مانع ، ويمتنع وصف المرض بكونه حابسا ومانعا ، لأن الحبس والمنع فعل ، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلا ، لأن المرض عرض لا يبقى زمانين ، فكيف يكون فاعلا وحابسا ومانعا ، أما وصف العدو بأنه حابس ومانع ، فوصف حقيقي ، وحمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على مجازه .

الحجة الرابعة : أن الإحصار مشتق من الحصر ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض ، فلفظ الإحصار وجب أن يكون خاليا عن الإشعار بالمرض قياسا على جميع الألفاظ المشتقة .

الحجة الخامسة : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ) فعطف عليه المريض ، فلو كان المحصر هو المريض أو من يكون المرض داخلا فيه ، لكان هذا عطفا للشيء على نفسه .

فإن قيل : إنه خص هذا المرض بالذكر لأن له حكما خاصا ، وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية إن منعتم بمرض تحللتم بدم ، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفرتم .

قلنا : هذا وإن كان حسنا لهذا الغرض ، إلا أنه مع ذلك يلزم عطف الشيء على نفسه ، أما إذا لم يكن المحصر مفسرا بالمريض ، لم يلزم عطف الشيء على نفسه ، فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال ، فكان ذلك أولى .

الحجة السادسة : قال تعالى في آخر الآية : ( فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) [ البقرة : 196 ] ، ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض ، فإنه يقال في المرض : شفي وعفي ولا يقال أمن .

فإن قيل : لا نسلم أن لفظ الأمن لا يستعمل إلا في الخوف ، فإنه يقال : أمن المريض من الهلاك وأيضا خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها .

قلنا : لفظ الأمن إذا كان مطلقا غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو .

وقوله : خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها .

قلنا : بل يوجب لأن قوله : ( فإذا أمنتم ) [ البقرة : 196 ] ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مماذا ، فلا بد [ ص: 126 ] وأن يكون المراد حصول الأمن من شيء تقدم ذكره ، والذي تقدم ذكره هو الإحصار ، فصار التقدير : فإذا أمنتم من ذلك الإحصار ، ولما ثبت أن لفظ الأمن لا يطلق إلا في حق العدو ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار منع العدو ، فثبت بهذه الدلائل أن الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط ، أما قول من قال : إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل .

وفيه دليل آخر : وهو أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية أن الكفار أحصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ، والناس وإن اختلفوا في أن الآية النازلة في سبب هل تتناول غير ذلك السبب ؟ إلا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا عنه ، فلو كان الإحصار اسما لمنع المرض ، لكان سبب نزول الآية خارجا عنها ، وذلك باطل بالإجماع ، فثبت بما ذكرنا أن الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو ، وإذا ثبت هذا فنقول : لا يمكن قياس منع المرض عليه ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن كلمة " إن " شرط عند أهل اللغة ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهرا ، فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلا في الإحصار الذي دلت الآية عليه ، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياسا كان ذلك نسخا للنص بالقياس ، وهو غير جائز .

الوجه الثاني : أن الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصدا ، ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه ، وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو ، ولأن المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمنا من مرضه ، أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام ، فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل ، فهذا ما عندي في هذه المسألة على ما يليق بالتفسير .

التالي السابق


الخدمات العلمية