صفحة جزء
المسألة الثانية : أما الرفث فقد فسرناه في قوله : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) [البقرة : 187] والمراد : الجماع ، وقال الحسن : المراد منه كل ما يتعلق بالجماع ، فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها ، والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع ، وهؤلاء قالوا : التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثا ، واحتجوا بأن ابن عباس كان يحدو بعيره وهو محرم ويقول :


وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا



فقال له أبو العالية : أترفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء ، وقال آخرون : الرفث هو قول الخنا والفحش ، واحتج هؤلاء بالخبر واللغة ؛ أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ شاتمه فليقل : إني صائم ومعلوم أن الرفث ههنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش ، وأما اللغة فهو أنه روي عن أبي عبيد أنه قال : الرفث الإفحاش في المنطق ، يقال : أرفث الرجل إرفاثا ، وقال أبو عبيدة : الرفث اللغو من الكلام .

أما الفسوق فاعلم أن الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق ، وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة ، واختلف المفسرون فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي ، قالوا : لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له ، والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه ، فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل ، وهذا متأكد بقوله تعالى : ( ففسق عن أمر ربه ) [الكهف : 50] وبقوله : ( وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) [الحجرات : 7] .

وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها :

الأول : المراد منه السباب ، واحتجوا عليه بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) [الحجرات : 11] وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : سباب المسلم [ ص: 141 ] فسوق وقتاله كفر

والثاني : المراد منه الإيذاء والإفحاش ، قال تعالى : ( ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) [البقرة : 282] .

والثالث : قال ابن زيد : هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج ، ولأجل الأصنام ، وقال تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) [الأنعام : 121] ؛ وقوله : ( أو فسقا أهل لغير الله به ) [الأنعام : 145] .

والرابع : قال ابن عمر : إنه العاصي في قتل الصيد وغيره مما يمنع الإحرام منه .

والخامس : أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة ، والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا .

والسادس : قال محمد بن الطبري : الفسوق هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته .

وأما الجدال فهو فعال من المجادلة ، وأصله من الجدل الذي من القتل ، يقال : زمام مجدول وجديل ، أي مفتول ، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولا ، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه ، وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال .

فالأول : قال الحسن : هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل .

والثاني : قال محمد بن كعب القرظي : إن قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى ، قال بعضهم : حجنا أتم ، وقال آخرون : بل حجنا أتم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك .

والثالث : قال مالك في "الموطأ" الجدال في الحج أن قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح ، وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، قال الله تعالى : ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ) [الحج : 67] قال مالك : هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم .

والرابع : قال القاسم بن محمد : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج اليوم ، وآخرون يقولون : بل غدا ، وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة ، وآخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون ، فبعضهم يقول : هذا اليوم يوم العيد . وبعضهم يقول : بل غدا ، فالله تعالى نهاهم عن ذلك ، فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج ، فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة .

الخامس : قال القفال رحمه الله تعالى : يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ؛ فشق عليهم ذلك وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة وتركوا الجدال حينئذ .

السادس : قال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

السابع : أنهم كانوا مختلفين في السنين ، فقيل لهم : لا جدال في الحج ، فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام ، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب .

[ ص: 142 ] وذكر القاضي كلاما حسنا في هذا الموضع ، فقال : قوله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون نهيا كقوله : ( لا ريب فيه ) [آل عمران : 9] أي لا ترتابوا فيه ، وظاهر اللفظ للخبر ، فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ؛ لأنه كالضد لها ، وهي مانعة من صحته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى ، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج ، ويحمل الفسوق على الزنا ؛ لأنه يفسد الحج ، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه ؛ لأن ذلك يكون كفرا فلا يصح معه الحج ، وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، فإن قيل : أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسدا ، ويجب على صاحبه المضي فيه ، وإذا كان الحج باقيا معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، قلنا : المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء ، وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها ، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء ، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج ؛ لأن ذلك كفر ، وعمل الحج مشروط بالإسلام ، فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه ، أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ ، فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أنواعه ؛ لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام ، فيكون النهي عنها نهيا عن جميع أقسامها ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة ، والتمسك بالآداب الحسنة ، والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات .

المسألة الثالثة : الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص ، وهو قوله : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة : قوة شهوانية بهيمية ، وقوة غضبية سبعية ، وقوة وهمية شيطانية ، وقوة عقلية ملكية ، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة ، أعني الشهوانية ، والغضبية ، والوهمية ، فقوله : ( فلا رفث ) إشارة إلى قهر القوة الشهوانية ، وقوله : ( ولا فسوق ) إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب ، وقوله : ( ولا جدال ) إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم ، والمخاصمة معهم في كل شيء ، فلما كان منشأ الشر محصورا في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله ، والانخراط في سلك الخواص من عباده ، فلا يكون فيه هذه الأمور ، وهذه أسرار نفيسة هي المقصد الأقصى من هذه الآيات ، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلا عنها ، ومن الله التوفيق في كل الأمور .

التالي السابق


الخدمات العلمية