صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) ففيه قولان :

أحدهما : أن المراد : وتزودوا من التقوى ، والدليل عليه قوله بعد ذلك : ( فإن خير الزاد التقوى ) وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران :

[ ص: 144 ] سفر في الدنيا ، وسفر من الدنيا ، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد ، وهو الطعام والشراب والمركب والمال ، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضا من زاد ، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه :

الأول : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم ، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن .

وثانيها : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم .

وثالثها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات ، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة ، آمنة من الانقطاع والزوال .

ورابعها : أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء ، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة ، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول .

وخامسها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس ، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس ، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى .

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية ، فكأنه تعالى قال : لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه من كثرة المنافع ، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى :


إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا     ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا



والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : إنا متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم ، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال : وتزودوا ما تبلغون به ؛ فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم ؛ وعن ابن زيد : أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت . وروى محمد بن جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية ، قال القاضي : وهذا بعيد لأن قوله : ( فإن خير الزاد التقوى ) راجع إلى قوله : ( وتزودوا ) فكان تقديره : وتزودوا من التقوى ، والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات ، قال : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان :

أحدهما : أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك ، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية .

والثاني : أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد : وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل ، فإن خير الزاد التقوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية