صفحة جزء
المسألة الثالثة : اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة ، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات ، وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوها ؛ أما يوم التروية ففيه قولان :

أحدهما : من روى يروي تروية ، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته .

والثاني : من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش .

أما الأول : ففيه ثلاثة أقوال :

[ ص: 148 ] أحدها : أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت ، فلما بناه تفكر فقال : رب إن لكل عامل أجرا ، فما أجري على هذا العمل ؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك ، قال : يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به ، قال : زدني قال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك ، قال : حسبي يا رب حسبي .

وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكرا هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان ؟ فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك .

وثالثها : أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات .

أما القول الثاني : وهو اشتقاقه من تروية الماء ، ففيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم .

والثاني : أنهم يتزودون الماء إلى عرفة .

والثالث : أن المذنبين كالعطاش وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا ، وأما فضل هذا اليوم فدل عليه قوله تعالى : ( والشفع والوتر ) [الفجر : 3] عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر ، وعن عبادة أنه عليه الصلاة والسلام قال : صيام عشر الأضحى ، كل يوم منها كالشهر ، ولمن يصوم يوم التروية سنة ، ولمن يصوم يوم عرفة سنتان وروى أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال : من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى ابن مريم عليه السلام .

وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء ، خمسة منها مختصة به ، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره .

أما الخمسة الأولى :

فأحدها : عرفة ، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه مشتق من المعرفة ، وفيه ثمانية أقوال :

الأول : قول ابن عباس أن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمي اليوم عرفة ، والموضع عرفات ، وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب ، وحواء بجدة ، وإبليس بنيسان ، والحية بأصفهان ، فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا .

وثانيها : أن آدم علمه جبريل مناسك الحج ، فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت ؟ قال نعم ، فسمي عرفات .

وثالثها : قول علي وابن عباس وعطاء والسدي : سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة .

ورابعها : أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك ، وأوصله إلى عرفات ، وقال له : أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف ؟ قال : نعم .

وخامسها : أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ، ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين ، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات .

وسادسها : ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام .

وسابعها : أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا .

وثامنها : أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة .

القول الثاني : في اشتقاق عرفة أنه من الاعتراف ؛ لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والاستغناء ، ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة . ويقال : إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما .

[ ص: 149 ] والقول الثالث : أنه من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ؛ قال تعالى : ( ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) [محمد : 6] أي طيبها لهم ، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب ، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة ، قال عليه الصلاة والسلام : خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك .

الثاني : يوم إياس الكفار من دين الإسلام .

الثالث : يوم إكمال الدين .

الرابع : يوم إتمام النعمة .

الخامس : يوم الرضوان .

وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات ، في قوله : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) [المائدة : 3] الآية ، قال عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية عرفة ، وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام ، وذلك في حجة الوداع ، وقد اضمحل الكفر ، وهدم بنيان الجاهلية ، فقال عليه الصلاة والسلام : لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم فقال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين ، كان يوم عرفة ويوم الجمعة . فأما معنى : إياس المشركين : فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم ، فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع ، وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين ؛ لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار ، وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء ( وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) [المائدة : 6] ولما جاء البشير وقدم على يعقوب ، قال : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة ، وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام ، فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم ، فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين ، وقيل : هذا اليوم يوم صلة الواصلين ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [المائدة : 3] ويوم قطيعة القاطعين ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ) [التوبة : 3] ويوم إقالة عثر النادمين ، وقبول توبة التائبين ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [الأعراف : 23] فكما تاب برحمته على آدم فيه ، فكذلك يتوب على أولاده ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) [الشورى : 25] وهو أيضا يوم وفد الوافدين ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) [الحج : 27] وفي الخبر : " الحاج وفد الله ، والحاج زوار الله ، وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره " .

وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة :

فأحدها : يوم الحج الأكبر ؛ قال الله تعالى : ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) [التوبة : 3] وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر ، واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه فمنهم من قال : إنه عرفة ، وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم ، فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر . قال الحسن : سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون ، ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك ، وقال ابن سيرين : إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى ، وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده ، ومنهم من قال : إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج ، فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ في الليل ، وروي القولان جميعا عن علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وثانيها : الشفع . وثالثها : الوتر . ورابعها : الشاهد . وخامسها : المشهود في قوله : ( وشاهد ومشهود ) [البروج : 3] وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية .

واعلم أنه تعالى خص يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل ، منها أنه تعالى خص صومه بكثرة [ ص: 150 ] الثواب ؛ قال عليه الصلاة والسلام : صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وعن أنس كان يقال في أيام العشر : كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس .

التالي السابق


الخدمات العلمية