صفحة جزء
المسألة الثانية :

في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة : اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل ، أما العلم فهو كون العبد عالما بكونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية ، وأن الله تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه .

فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب ، وهي انكسار وتواضع ، ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى الله تعالى والخضوع له ، ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان ، أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريدا لأن يصونه تعالى عن الآفات ، ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات .

وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالبا لهذا المعنى بلسانه من الله تعالى ، وذلك الطلب هو الاستعاذة وهو قوله ( أعوذ بالله ) إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه بالله وعلمه بنفسه ، وأما علمه بالله فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع المعلومات ، فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون الله عالما به ولا بأحواله ، فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثا ، ولا بد أن يعلم كونه قادرا على جميع الممكنات ، وإلا فربما كان عاجزا عن تحصيل مراد البعد .

ولا بد أن يعلم أيضا كونه جوادا مطلقا ، إذ لو كان البخل عليه جائزا لما كان في الاستعاذة فائدة ، ولا بد أيضا وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى الله تعالى على أن يعينه على مقاصده ، إذ لو جاز أن يكون غير الله يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة بالله ، وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق ، وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد ، وأن يعلم أيضا أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه ، إذ لو كان مستقلا بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة .

فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ومن الناس من يقول : لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات ، بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول : أعوذ بالله على سبيل الإجمال وهذا ضعيف جدا : لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [ مريم : 42 ] فبتقدير أن لا يكون الإله عالما بكل المعلومات قادرا على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالا لمن لا يسمع ولا يبصر ، وكان داخلا تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيبا على أبيه .

وأما علم العبد بحال نفسه فلا بد وأن يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام ، وأن يعلم أيضا أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها . إذا عرفت هذا فنقول : إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهدا لها متيقنا فيها وجب أن يحصل [ ص: 63 ] في قلبه تلك الحالة المسماة بالانكسار والخضوع ، وحينئذ يحصل في قلبه الطلب ، وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب ، وذلك هو قوله : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) والذي يدل على كون الإنسان عاجزا عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان : إما العمل ، وإما العلم ، وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز ، أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة بالله ، وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة بالله ، ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم ، ولم يعرفوا الجواب عنها ، بل أصروا عليها وظنوها علما يقينيا وبرهانا جليا ، ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها ، وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله ، ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب ، وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة الله وفضله وإرشاده ، وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات ؟

الحجة الثانية : أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح ، وإن أحدا لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر ، فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود ، علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسماوات .

الحجة الثالثة : أن القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط ، فنقول : ذلك الحد الأوسط إن كان حاضرا في عقله كان القياس منعقدا والنتيجة لازمة . فحينئذ لا يكون العقل متوقفا في تلك القضية بل يكون جازما بها ، وقد فرضناه متوقفا فيها ، هذا خلف ، وأما إن قلنا : إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه أو لا يمكنه طلبه ؟ والأول باطل ؛ لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه ؟ لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به ، وإن كان يعرفه بعينه ، فالعلم به حاضر في ذهنه ، فكيف يطلب تحصيل الحاصل ؟ وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذ يكون عاجزا عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ، ويخرج من ظلمة تلك الحيرة ، وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة .

الحجة الرابعة : أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) [ المؤمنون : 97 ] فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة ، فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم ، وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه ، فهذا أيضا كذلك ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم ، وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعا من الزبانية ، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة ، والشهوة ، والغضب ، والقوى الطبيعية السبع ، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس ، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد ، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة ، فإن الأشياء التي تقوى القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية ، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب ، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى [ ص: 64 ] حضيض عالم الجسمانيات ، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته ، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ، ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات ، فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) .

الحجة الخامسة : أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان :

أحدهما : اللذات الحسية .

والثاني : اللذات الخيالية وهي لذة الرياسة .

وفي كل واحد من هذين القسمين ، الإنسان إذا لم يمكن أن يمارس تحصيل تلك اللذات ، ولم يزاولها لم يكن له شعور بها ، وإذا كان عديم الشعور بها ، كان قليل الرغبة فيها ، ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها ، وإذا حصل الالتذاذ بها قويت رغبته فيها ، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك ، فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزا بالمطالب كان أعظم حرصا وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها ، وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص ، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب ، فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه ، ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) .

الحجة السادسة : في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وقوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) [ البقرة : 45 ] وقول موسى لقومه : ( استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) [ الأعراف : 128 ] وفي بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى يقول : " وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس ، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس ، ولأخيبنه من قربي ، ولأبعدنه من وصلي ، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد ، والشدائد بيدي ، وأنا الحي القيوم ، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري ، وبيدي مفاتيح الأبواب ، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني " .

التالي السابق


الخدمات العلمية