صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين )

قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين )

اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، أمر المسلمين بما يضاد ذلك ، وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه ، فقال : ( ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ونافع والكسائي "السلم" بفتح السين ، وكذا في قوله : ( وإن جنحوا للسلم ) [الأنفال : 61] وقوله : ( وتدعوا إلى السلم ) [محمد : 35] وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بن عياش "السلام" بكسر السين في الكل ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين في هذه ، والتي في البقرة ، والتي في سورة محمد في قوله : " وتدعوا إلى السلم" وقرأ ابن عامر بكسر السين في هذه التي في البقرة وحدها وبفتح السين في الأنفال ، وفي سورة محمد ، فذهب ذاهبون إلى أنهما لغتان بالفتح والكسر ، مثل : رطل ورطل ، وجسر وجسر ، [ ص: 176 ] وقرأ الأعمش بفتح السين واللام .

المسألة الثانية : أصل هذه الكلمة من الانقياد ، قال الله تعالى : ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت ) [البقرة : 131] والإسلام إنما سمي إسلاما لهذا المعنى ، وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى ؛ لأن عند الصلح ينقاد كل واحد لصاحبه ولا ينازعه فيه ، قال أبو عبيدة : وفيه لغات ثلاث : السلم ، والسلم ، والسلم .

المسألة الثالثة : في الآية إشكال ، وهو أن كثيرا من المفسرين حملوا السلم على الإسلام ، فيصير تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام ، والإيمان هو الإسلام ، ومعلوم أن ذلك غير جائز ، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوها في تأويل هذه الآية :

أحدها : أن المراد بالآية المنافقون ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة على النفاق ، ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين ، وهو قوله : ( ومن الناس من يعجبك قوله ) الآية . فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب وترك النفاق .

وثانيها : أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي عليه السلام أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى ، فعظموا السبت ، وكرهوا لحوم الإبل وألبانها ، وكانوا يقولون : ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام ، وواجب في التوراة ، فنحن نتركها احتياطا ، فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة ، أي في شرائع الإسلام كافة ، ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقادا له وعملا به ؛ لأنها صارت منسوخة ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة ، والقائلون بهذا القول جعلوا قوله : ( كافة ) من وصف السلم ، كأنه قيل : ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقادا وعملا .

وثالثها : أن يكون هذا الخطاب واقعا على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام فقوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) أي بالكتاب المتقدم ( ادخلوا في السلم كافة ) أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فادخلوا بإيمانكم بمحمد عليه السلام وبكتابه في السلم على التمام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة : تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض ، وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة .

ورابعها : هذا الخطاب واقع على المسلمين ( ياأيها الذين آمنوا ) بالألسنة ( ادخلوا في السلم كافة ) أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ، ولا تخرجوا عنه ولا عن شيء من شرائعه ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية ومن قال بهذا التأويل قال : هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها ، أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في [ ص: 177 ] صفة ذلك المنافق في قوله : ( سعى في الأرض ليفسد فيها ) وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين ، فكأنه تعالى قال : دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون ، وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله تعالى : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) [البقرة : 210] يعني هؤلاء الكفار معاندون مصرون على الكفر قد أزيحت عللهم وهم لا يوقفون قولهم بهذا الدين الحق إلا على أمور باطلة مثل أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة .

فإن قيل : الموقوف بالشيء يقال له : دم عليه ، ولكن لا يقال له : ادخل فيه ، والمذكور في الآية هو قوله : ( ادخلوا ) .

قلنا : إن الكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجا عنها فغير ممتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالا بعد حال ، وإن كان كائنا فيها في الحال ، لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن يدخلها ، فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها صح أن يؤمر بدخولها ، ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال فلا يمتنع أن يأمرهم الله تعالى بالدخول في المستقبل في الإسلام .

وخامسها : أن يكون السلم المذكور في الآية معناه الصلح وترك المحاربة والمنازعة ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس ، وهو كقوله : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) [آل عمران : 103] وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اصبروا ) [آل عمران : 200] وقال : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) [آل عمران : 103] وقال عليه الصلاة والسلام : " المؤمن يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه " وهذه الوجوه في التأويل ذكرها جمهور المفسرين وعندي فيه وجوه أخر :

أحدها : أن قوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب ، وقوله : ( ادخلوا في السلم كافة ) إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي ، وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله ، فيصح أن يسمى تركها بالسلم ، أو يكون المراد منه كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات ، وترك المحظورات ، وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي ، وهذا تأويل ظاهر .

وثانيها : أن يكون المراد من السلم كون العبد راضيا ولم يضطرب قلبه على ما روي في الحديث : " الرضا بالقضاء باب الله الأعظم " .

وثالثها : أن يكون المراد ترك الانتقام كما في قوله : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [الفرقان : 72] وفي قوله : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [الأعراف : 199] فهذا هو الكلام في وجوه تأويلات هذه الآية .

المسألة الرابعة : قال القفال "كافة" يصح أن يرجع إلى المأمورين بالدخول أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ، ولا تفرقوا ولا تختلفوا ، قال قطرب : تقول العرب : رأيت القوم كافة وكافين ورأيت النسوة كافات ويصلح أن يرجع إلى الإسلام أي ادخلوا في الإسلام كله أي في كل شرائعه ، قال الواحدي رحمه الله : هذا أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها ، ومعنى الكافة في اللغة الحاجزة المانعة ، يقال : كففت فلانا عن السوء أي منعته ، ويقال : كف القميص لأنه منع الثواب عن الانتشار ، وقيل لطرف اليد : كف لأنه يكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف أي كف بصره من أن يبصر ، فالكافة معناها المانعة ، ثم صارت اسما للجملة الجامعة ، وذلك لأن الاجتماع يمنع من التفرق والشذوذ ، فقوله : ( ادخلوا في السلم كافة ) أي ادخلوا في شرائع [ ص: 178 ] الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئا من شرائعه ، أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحدا من أن لا يدخل فيه .

أما قوله تعالى : ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) فالمعنى : ولا تطيعوه ، ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره ، ولا فرق بين ذلك وبين قوله : اتبعت خطواته . وخطوات جمع خطوة ، وقد تقدم ذلك .

أما قوله تعالى : ( إنه لكم عدو مبين ) فقال أبو مسلم الأصفهاني : إن "مبين" من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره ، وأقول : الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله : ( حم والكتاب المبين ) [الدخان : 2] ولا يعني بقوله مبينا إلا ذلك .

فإن قيل : كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه .

قلنا : إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ، ومثاله : من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال : إن فلانا عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال ، وعندي فيه وجه آخر ؛ وهو أن الأصل في الإبانة القطع ، والبيان إنما سمي بيانا لهذا المعنى ، فإنه يقطع بعض الاحتمالات عن بعض ، فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه .

فإن قيل : كون الشيطان عدوا لنا إما أن يكون بسبب أن يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال ، أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب ، والأول باطل ، إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وإن كان الثاني فهو أيضا باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [إبراهيم : 22] إذا ثبت هذا فكيف يقال : إنه عدو مبين العداوة ، والحال ما ذكرناه ؟

الجواب : أنه عدو من الوجهين معا ؛ أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك ، وليس يلزم من كونه مريدا لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادرا عليها ، وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروما عن الثواب ، فكان ذلك من أعظم جهات العداوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية