صفحة جزء
المسألة الثالثة :

في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية ؟ قالت المعتزلة : قوله : ( أعوذ بالله ) يبطل القول بالجبر من وجوه :

الأول : أن قوله : ( أعوذ بالله ) اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة ، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد فاعلا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، وأيضا فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه ، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله ، فثبت أن قوله : ( أعوذ بالله ) اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال نفسه .

والثاني : أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقا للأمور التي منها يستعاذ ، أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها ؛ لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله .

والثالث : أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدل على أن العبد غير راض بها ، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضيا بها ؛ لما ثبت بالإجماع أن الرضا بقضاء الله واجب .

[ ص: 65 ] والرابع : أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان ، أما إذا كانت فعلا لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان ، بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى ، لأنه لا شر إلا من قبله .

الخامس : أن الشيطان يقول : إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها علي ولا قدرة لي على مخالفة حكمك ثم قلت : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] وقلت : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ البقرة : 185 ] وقلت : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ] فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني ؟ .

السادس : جعلتني مرجوما ملعونا بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني ؟ فإن كان الأول ، فقد بطل الجبر ، وإن كان الثاني ، فهذا محض الظلم وأنت قلت : ( وما الله يريد ظلما للعباد ) [ غافر : 31 ] فكيف يليق هذا بك ؟

فإن قال قائل : هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر ، وأنا لا أقول بالجبر ، ولا بالقدر ، بل أقول : الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر ، وهو الكسب .

فنقول : هذا ضعيف ، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون ، فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال ، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض ، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول ، فكيف يعقل حصول الواسطة .

قال أهل السنة والجماعة : أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين :

الأول : أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين ، أو كانت صالحة للطرفين معا ، فإن كان الأول فالجبر لازم ، وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح ، أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان هو الله تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع ، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع ، وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه ، وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح ، فهذا باطل لوجهين :

الأول : أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح .

والثاني : أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ، ولا يكون صادرا عن العبد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد عاد الجبر المحض ، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم .

الوجه الثاني : في السؤال : أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم في العلم لزوما لا جواب عنه .

ثم قال أهل السنة والجماعة : قوله : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) يبطل القول بالقدر من وجوه :

[ ص: 66 ] الأول : أن المطلوب من قولك : ( أعوذ بالله من الشيطان ) إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير ، أو على سبيل القهر والجبر ، أما الأول فقد فعله ، ولما فعله كان طلبه من الله محالا ، لأن تحصيل الحاصل محال .

وأما الثاني فهو غير جائز ، لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين ، وقد ثبت كونهم مكلفين .

أجابت المعتزلة عنه فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح ، لا يقال : فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب ، لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء ، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله ، أجاب أهل السنة عن هذا السؤال : بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا أثر فيه ، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع ، والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم ، وهو جمع بين النقيضين ، وهو محال ، فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب ، وذلك يبطل القول بالاعتزال ، وأما إن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها البتة أثر ، فيكون فعلها عبثا محضا ، وذلك في حق الله تعالى محال .

الوجه الثاني : أن يقال : إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد ، أو لا يكون ، فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع ، فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد ؟ وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه ؟ وأما إذا قيل : إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان .

الوجه الثالث : أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر ، أو يكون قادرا على فعل الشر والخير معا ، فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر ، وذلك يقدح في قولهم : إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير وإن كان الثاني - وهو أنه قادر على فعل الشر والخير - فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى ، وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة ؟

الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان ، فالشيطان كيف وقع في المعاصي ؟

فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل ، وإن قلنا : وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر ؟ وعلى هذا التقدير ، فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان ، وإن قلنا : إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر فهذا حيف على البشر ، وتخصيص له بمزيد الثقل والإضرار وذلك ينافي كون الإله رحيما ناصرا لعباده .

الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع ، فهو واجب الوقوع فلا فائدة في الاستعاذة منه ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الاستعاذة منه .

واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله : ( أعوذ بالله ) إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله ، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك ، [ ص: 67 ] وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية