1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر
صفحة جزء
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف أهل الكلام في قوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) وذكروا فيه وجوها :

الوجه الأول : وهو مذهب السلف الصالح أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أن المجيء والذهاب على الله تعالى محال ، علمنا قطعا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية هو المجيء والذهاب ، وأن مراده بعد ذلك شيء آخر ، فإن عينا ذلك المراد لم نأمن الخطأ ، فالأولى السكوت عن التأويل ، وتفويض معنى الآية على سبيل التفصيل إلى الله تعالى ، وهذا هو المراد بما روي عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على أربعة أوجه :

وجه لا يعرفه أحد لجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ، ووجه نعرفه من قبل العربية فقط ، ووجه لا يعلمه إلا الله . وهذا القول قد استقصينا القول فيه في تفسير قوله تعالى : ( الم ) .

الوجه الثالث : وهو قول جمهور المتكلمين : أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل ثم ذكروا فيه وجوها :

الأول : المراد ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) أي آيات الله ، فجعل مجيء الآيات مجيئا له على التفخيم لشأن الآيات ، كما يقال : جاء الملك إذا جاء جيش عظيم من جهته ، والذي يدل على صحة هذا التأويل أنه تعالى قال في الآية المتقدمة ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) فذكر ذلك في معرض الزجر والتهديد ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) ومعلوم أن التقدير أن يصح المجيء على الله لم يكن مجرد حضوره سببا للتهديد والزجر ، لأنه عند الحضور كما يزجر الكفار ويعاقبهم ، فهو يثيب المؤمنين ويخصهم بالتقريب ، فثبت أن مجرد الحضور لا يكون سببا للتهديد والوعيد ، فلما كان المقصود من الآية إنما هو الوعيد والتهديد ، وجب أن يضمر في الآية مجيء الهيبة والقهر والتهديد ، ومتى أضمرنا ذلك زالت الشبهة بالكلية ، وهذا تأويل حسن موافق لنظم الآية .

والوجه الثاني في التأويل : أن يكون المراد ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) أي أمر الله ، ومدار الكلام في هذا الباب أنه تعالى إذا ذكر فعلا وأضافه إلى شيء ، فإن كان ذلك محالا فالواجب صرفه إلى التأويل ، كما قاله العلماء في قوله : ( الذين يحاربون الله ) [المائدة : 33] والمراد يحاربون أولياءه ، وقال : ( واسأل القرية ) [يوسف : 82] والمراد : واسأل أهل القرية ، فكذا قوله : ( يأتيهم الله ) المراد به يأتيهم أمر الله ، وقوله : ( وجاء ربك ) [الفجر : 22] المراد : جاء أمر ربك ، وليس فيه إلا حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهو [ ص: 183 ] مجاز مشهور ، يقال : ضرب الأمير فلانا ، وصلبه ، وأعطاه ، والمراد أنه أمر بذلك ، لا أنه تولى ذلك العمل بنفسه ، ثم الذي يؤكد القول بصحة هذا التأويل وجهان :

الأول : أن قوله ههنا : ( يأتيهم الله ) وقوله : ( وجاء ربك ) إخبار عن حال القيامة ، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ) [النحل : 33] فصار هذا الحكم مفسرا لذلك المتشابه ؛ لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على البعض .

والثاني : أنه تعالى قال بعده : ( وقضي الأمر ) ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق ، فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه ، وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله : ( يأتيهم الله ) أي يأتيهم أمر الله .

فإن قيل : أمر الله عندكم صفة قديمة ، فالإتيان عليها محال ، وعند المعتزلة أنه أصوات فتكون أعراضا ، فالإتيان عليها أيضا محال .

قلنا : الأمر في اللغة له معنيان :

أحدهما الفعل والشأن والطريق ، قال الله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) [القمر : 50] ( وما أمر فرعون برشيد ) [هود : 97] وفي المثل : لأمر ما جدع قصير أنفه ، لأمر ما يسود من يسود ، فيحمل الأمر ههنا على الفعل ، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المبينة ، وهذا هو التأويل الأول الذي ذكرناه ، وأما حملنا الأمر على الأمر الذي هو ضد النهي ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون التقدير أن مناديا ينادي يوم القيامة : ألا إن الله يأمركم بكذا وكذا ، فذاك هو إتيان الأمر ، وقوله : ( في ظلل من الغمام ) أي مع ظلل ، والتقدير : إن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد .

والثاني : أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل من الغمام حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على كل أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة ، أو يكون المراد أنه تعالى خلق نقوشا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها ، وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد وغيرهما وتكون فائدة الظلل من الغمام أنه تعالى جعله أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ، فعنده يعلمون أن الأمر قد حضر وقرب .

الوجه الثالث في التأويل أن المعنى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعد من العذاب والحساب ، فحذف ما يأتي به تهويلا عليهم ، إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد وإذا لم يذكر كان أبلغ لانقسام خواطرهم ، وذهاب فكرهم في كل وجه ، ومثل قوله تعالى : ( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) [الحشر : 2] والمعنى أتاهم الله بخذلانه إياهم من حيث لم يحتسبوا ، وكذلك قوله تعالى : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب ) [النحل : 26] فقوله : ( وأتاهم العذاب ) [النحل : 26] كالتفسير لقوله تعالى : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) [النحل : 26] ويقال في العرف الظاهر إذا سمع بولاية جائر : قد جاءنا فلان بجوره وظلمه ، ولا شك أن هذا مجاز مشهور .

الوجه الرابع في التأويل : أن يكون "في" بمعنى الباء ، وحروف الجر يقام بعضها مقام البعض ، وتقديره هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة ، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة .

[ ص: 184 ] الوجه الخامس : أن المقصود من الآية تصوير عظمة يوم القيامة وهولها وشدتها ، وذلك لأن جميع المذنبين إذا حضروا للقضاء والخصومة ، وكان القاضي في تلك الخصومة أعظم السلاطين قهرا وأكبرهم هيبة ، فهؤلاء المذنبون لا وقت عليهم أشد من وقت حضوره لفصل تلك الخصومة ، فيكون الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع ، ونظيره قوله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) [الزمر : 67] من غير تصوير قبضة وطي ويمين ، وإنما هو تصوير لعظمة شأنه لتمثيل الخفي بالجلي ، فكذا ههنا ، والله أعلم .

الوجه السادس : وهو أوضح عندي من كل ما سلف : أنا ذكرنا أن قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) إنما نزلت في حق اليهود ، وعلى هذا التقدير فقوله : ( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) يكون خطابا مع اليهود ، وحينئذ يكون قوله تعالى : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) حكاية عن اليهود ، والمعنى : أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) [البقرة : 55] وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود ولم يمنع إجراء الآية على ظاهرها ، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه ، وكانوا يجوزون على الله المجيء والذهاب ، وكانوا يقولون : إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه ، فلا يحتاج حينئذ إلى التأويل ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز ، وبالجملة فالآية تدل على أن قوما ينتظرون أن يأتيهم الله ، وليس في الآية دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أو مبطلون ، وعلى هذا التقدير يسقط الإشكال .

فإن قيل : فعلى هذا التأويل كيف يتعلق به قوله تعالى : ( وإلى الله ترجع الأمور ) .

قلنا : الوجه فيه أنه تعالى لما حكى عنادهم وتوقفهم في قبول الدين على هذا الشرط الفاسد ، فذكر بعده ما يجري مجرى التهديد فقال : ( وإلى الله ترجع الأمور ) وهذا الوجه أظهر عندي من كل ما سبق ، والله أعلم بحقيقة كلامه .

الوجه السابع في التأويل : ما حكاه القفال في "تفسيره" عن أبي العالية ، وهو أن الإتيان في الظلل مضاف إلى الملائكة ؛ فأما المضاف إلى الله جل جلاله فهو الإتيان فقط ، فكان حمل الكلام على التقديم والتأخير ، ويستشهد في صحته بقراءة من قرأ "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام" قال القفال رحمه الله : هذا التأويل مستنكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية