صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) فاعلم أنا ذكرنا أنه لا بد ههنا من الإضمار ، والتقدير : كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين . واعلم أن الله تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث :

الصفة الأولى : كونهم مبشرين .

الصفة الثانية : كونهم منذرين ، ونظيره قوله تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين ) [النساء : 165] وإنما قدم البشارة على الإنذار ; لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض ، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني ، فلا جرم وجب تقديمه في الذكر .

الصفة الثالثة : قوله : ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ) فإن قيل : إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر [ ص: 14 ] والنهي إلى المكلفين ، ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار ، فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب ؟ أجاب القاضي عنه فقال : لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق ، وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقا للعقاب ، والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار ، فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر . ثم قال القاضي : ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ، ودون ذلك الكتاب أو لم يدون ، وكان ذلك الكتاب معجزا أو لم يكن كذلك ; لأن كون الكتاب منزلا معهم لا يقتضي شيئا من ذلك .

أما قوله تعالى : ( ليحكم بين الناس ) فاعلم أن قوله : ( ليحكم ) فعل ، فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره ، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة ، فأقربها إلى هذا اللفظ : الكتاب ، ثم النبيون ، ثم الله ، فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحا ، فيكون المعنى : ليحكم الله ، أو النبي المنزل عليه ، أو الكتاب ، ثم إن كل واحد من هذه الاحتمالات يختص بوجه ترجيح ، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات ، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب ، وأما النبي فلأنه هو المظهر ، فلا يبعد أن يقال : حمله على الكتاب أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : الحاكم هو الله ، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز ، إلا أن نقول : هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين :

الأول : أنه مجاز مشهور ، يقال : حكم الكتاب بكذا ، وقضى كتاب الله بكذا ، ورضينا بكتاب الله ، وإذا جاز أن يكون هدى وشفاء ، جاز أن يكون حاكما ، قال تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين ) [الإسراء : 9]

والثاني : أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله .

أما قوله تعالى : ( فيما اختلفوا فيه ) فاعلم أن الهاء في قوله : ( فيما اختلفوا فيه ) يجب أن يكون راجعا ، إما إلى الكتاب ، وإما إلى الحق ; لأن ذكرهما جميعا قد تقدم ، لكن رجوعه إلى الحق أولى ; لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكما فيما اختلفوا فيه ، فالكتاب حاكم ، والمختلف فيه محكوم عليه ، والحاكم يجب أن يكون مغايرا للمحكوم عليه .

أما قوله تعالى : ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ) فالهاء الأولى راجعة إلى الحق ، والثانية إلى الكتاب ، والتقدير : وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب . ثم قال أكثر المفسرين : المراد بهؤلاء : اليهود والنصارى ، والله تعالى كثيرا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) [المائدة : 5] ( قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) [آل عمران : 64] ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضا ، كقوله تعالى : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ) [البقرة : 113] ، ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم ، فقوله : ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ) أي : وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين ، واعلم أن هذا يدل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب ، وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الاختلاف في الحق حاصلا ، بل كان الاتفاق في الحق حاصلا ، وهو يدل على أن قوله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة ) معناه أمة واحدة في دين الحق . [ ص: 15 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية