صفحة جزء
الركن الثالث من أركان هذا الباب : المستعيذ : واعلم أن قوله : ( أعوذ بالله ) أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك ، وهذا غير مختص بشخص معين ، فهو أمر على سبيل العموم ؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله فالأول : أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال : ( رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) [ هود : 47 ] فعند هذا أعطاه الله خلعتين : السلام والبركات وهو قوله تعالى : ( قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك ) [ هود : 48 ] والثاني : حكى عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال : ( معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ) [ يوسف : 23 ] فأعطاه الله تعالى خلعتين : صرف السوء والفحشاء حيث قال : ( لنصرف عنه السوء والفحشاء ) [ يوسف : 24 ] والثالث : ( فخذ أحدنا مكانه ) [ يوسف : 78 ] فقال : ( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ) [ يوسف : 79 ] فأكرمه الله تعالى بقوله : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا ) [ يوسف : 100 ] .

[ ص: 68 ] الرابع : حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة قال قومه : ( أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) [ البقرة : 67 ] فأعطاه الله خلعتين : إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال : ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته ) [ البقرة : 73 ] .

الخامس : أن القوم لما خوفوه بالقتل قال : ( وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون ) [ الدخان : 20 ] وقال في آية أخرى : ( إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ) [ غافر : 27 ] فأعطاه الله تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم .

والسادس : أن أم مريم قالت : ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) [ آل عمران : 36 ] فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله : ( فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ) [ آل عمران : 37 ] .

والسابع : أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة : ( قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) [ مريم : 18 ] فوجدت نعمتين : ولدا من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله : ( إني عبد الله ) [ مريم : 30 ] .

الثامن : أن الله تعالى أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) [ المؤمنون : 97 ] وقال : ( قل أعوذ برب الفلق ) [ الفلق : 1 ] و ( قل أعوذ برب الناس ) [ الناس : 1 ] .

والتاسع : قال في سورة الأعراف : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) [ الأعراف : 199 ] وقال في حم السجدة : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) [ فصلت : 34 ] إلى أن قال : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) [ فصلت : 36 ] فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبدا في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن .

وأما الأخبار فكثيرة : الخبر الأول : عن معاذ بن جبل قال : استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وأغرقا فيه : فقال عليه السلام : " إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك وهي قوله : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) " وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه :

الأول : أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جدا وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل ، وعند الغضب يزول العقل ، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد ، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعا له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال ، وحاملا له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات فلا جرم يقول : أعوذ بالله .

الثاني : أن الإنسان غير عالم قطعا بأن الحق من جانبه ولا من جانب خصمه ، فإذا علم ذلك يقول : " أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى ، فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي ، وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه " وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله .

الثالث : أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم ، فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه ، فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال أعوذ بالله ، وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201 ] والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى .

[ ص: 69 ] والخبر الثاني : روى معقل بن يسار - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم ؛ مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " .

قلت : وتقريره من جانب العقل أن قوله : ( أعوذ بالله ) مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها ، والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته ، وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين .

الخبر الثالث : روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكا يذود عنه الشيطان " .

قلت : والسبب فيه أنه لما قال ( أعوذ بالله ) وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه ، وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس ، ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها ، والشيطان الأكبر هو النفس ، فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان .

والخبر الرابع : عن خولة بنت حكيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل " .

قلت : والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية ، وأن السماوات مملوءة من الأرواح الطاهرة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " أطت السماء ، وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد " وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح ، وبعضها طاهرة مشرقة خيرة ، وبعضها كدرة مؤذية شريرة ، فإذا قال الرجل : " أعوذ بكلمات الله التامات " فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة ، وأيضا كلمات الله هي قوله " كن " وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة الله لم يضره شيء .

والخبر الخامس : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر " وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده ، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه .

والخبر السادس : عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه كان يعوذ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - ويقول : " أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة " ويقول : " كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما السلام " .

الخبر السابع : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت : أعوذ بالله منك فقال عليه الصلاة والسلام : عذت بمعاذ فالحقي بأهلك .

واعلم أن الرجل المستبصر بنور الله لا التفات له إلى القائل ، وإنما التفاته إلى القول ، فلما ذكرت تلك المرأة كلمة : أعوذ بالله بقي قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشتغلا بتلك الكلمة ، ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا . [ ص: 70 ] والخبر الثامن : روى الحسن قال : بينما رجل يضرب مملوكا له فجعل المملوك يقول : ( أعوذ بالله ) إذ جاء نبي الله فقال : أعوذ برسول الله ، فأمسك عنه فقال عليه السلام : عائذ الله أحق أن يمسك عنه ، فقال : فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر لوجه الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار .

والخبر التاسع : قال سويد : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول على المنبر : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت .

والخبر العاشر : قوله عليه الصلاة والسلام : " أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك ، وأعوذ بك منك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية