المسألة الثانية : أما 
الصد عن سبيل الله ففيه وجوه : 
أحدها : أنه صد عن الإيمان بالله 
وبمحمد  عليه السلام . 
وثانيها : صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول عليه السلام . 
وثالثها : صد المسلمين عام 
الحديبية  عن عمرة البيت . 
ولقائل أن يقول : الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة 
بدر  في قصة 
عبد الله بن جحش  ، وقصة 
الحديبية  كانت بعد غزوة 
بدر  بمدة طويلة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن ما كان في   
[ ص: 30 ] معلوم الله تعالى كان كالواقع ، وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلا للرسل ، مستحقا للعبادة ، قادرا على البعث ، وأما قوله : ( 
والمسجد الحرام   ) فإن عطفناه على الضمير في ( 
به   ) كان المعنى : وكفر 
بالمسجد الحرام  ، ومعنى الكفر 
بالمسجد الحرام  هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به ، فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع ، ومن قال : إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى : وصد عن 
المسجد الحرام    ; وذلك لأنهم 
صدوا عن المسجد الحرام  الطائفين والعاكفين والركع السجود   . 
وأما قوله تعالى : ( 
وإخراج أهله منه   ) فالمراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد ، بل من 
مكة  ، وإنما جعلهم أهلا له ؛ إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى : ( 
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها   ) [الفتح : 26] وقال تعالى : ( 
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون   ) [الأنفال : 34] فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر ، أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام ، وهذا تفريع على قول 
الزجاج    . وإنما قلنا : إن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين : 
أحدهما : أن كل واحد من هذه الأشياء كفر ، والكفر أعظم من القتال . 
والثاني : أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام ، وهو القتال الذي صدر عن
عبد الله بن جحش  ، وهو ما كان قاطعا بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام ، وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام ، فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر . 
أما قوله تعالى : ( 
والفتنة أكبر من القتل   ) فقد ذكروا في الفتنة قولين : 
أحدهما : هي الكفر ، وهذا القول عليه أكثر المفسرين ، وهو عندي ضعيف ; لأن على قول 
الزجاج  قد تقدم ذكر ذلك ، فإنه تعالى قال : ( 
وكفر به   ) ( 
أكبر   ) 
فحمل الفتنة على الكفر يكون تكرارا ، بل هذا التأويل يستقيم على قول الفراء . 
والقول الثاني : أن الفتنة هي ما كانوا 
يفتنون المسلمين عن دينهم ، تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم ، وتارة بالتعذيب ، كفعلهم 
ببلال  وصهيب   nindex.php?page=showalam&ids=56وعمار بن ياسر  ، وهذا قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=13114محمد بن إسحاق  ، وقد ذكرنا أن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال : فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه ، ومنه قوله تعالى : ( 
إنما أموالكم وأولادكم فتنة   ) [التغابن : 15] أي امتحان لكم ; لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده ، فصار ذلك مانعا له عن الإنفاق ، وقال تعالى : ( 
الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون   ) [العنكبوت : 1 ، 2] أي : لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : ( 
وفتناك فتونا   ) [طه : 40] وإنما هو الامتحان بالبلوى ، وقال : ( 
ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله   ) [العنكبوت : 10] والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال : ( 
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا   ) [البروج : 10] والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم ، وقال : ( 
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا   ) [النساء : 101] وقال : ( 
ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم   ) [الصافات : 162] وقال : ( 
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة   ) [آل عمران : 7] أي المحنة في الدين ، وقال : ( 
واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك   ) [المائدة : 49] وقال : ( 
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا   ) [آل عمران : 7] وقال : ( 
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين   ) [يونس : 85] والمعنى أن يفتنوا   
[ ص: 31 ] بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال : ( 
فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون   ) [القلم : 65] قيل : المفتون المجنون ، والجنون فتنة ; إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول . 
فثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان ، وإنما قلنا : إن 
الفتنة أكبر من القتل ؛ لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا ، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلا عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل 
ابن الحضرمي    . 
روي أنه لما نزلت هذه الآية كتب 
عبد الله بن جحش  صاحب هذه السرية إلى مؤمني 
مكة    : إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من 
مكة  ، ومنع المؤمنين عن 
البيت الحرام  ، قال : 
ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا   ) والمعنى ظاهر ، ونظيره قوله تعالى : ( 
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم   ) [البقرة : 120] .