صفحة جزء
فصل

ومن الكلام القهقهة ، فإنها لا تنقض الوضوء في الصلاة ولا خارج الصلاة ، لكنها تبطل الصلاة فقط كما يبطلها الكلام ؛ لقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : " من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء " رواه الدارقطني [ ص: 324 ] وصححه ، ورواه مرفوعا بإسناد فيه مقال . وذكر الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري مثله ، ولم يثبت عن صحابي خلافه ؛ لأنه لا ينقض خارج الصلاة ، فكذلك في الصلاة كالكلام المحرم ، وأولى من وجهين :

أحدهما : أن الكلام محرم في الموضعين ، والقهقهة محرمة في الصلاة خاصة .

الثاني : أن الصلاة تمنع الوضوء مما لا يمنع منه خارج الصلاة خشية إبطالها ؛ ولهذا نهي الشاك في وضوئه أن يبطل صلاته لأجل تجديد الوضوء ، ويستحب لمن شك في غير الصلاة . والمتيمم إذا رأى الماء يبطل تيممه اتفاقا ، إلا أن يكون في الصلاة ، ففيه خلاف . وهل يستحب الوضوء من القهقهة ؟ فيه وجهان :

أحدهما : يستحب ؛ لما روى أبو العالية قال : جاء رجل في بصره سوء ، فدخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، فتردى في حفرة كانت في المسجد ، فضحك طوائف منهم ، فلما قضى صلاته " أمر من كان ضحك أن يعيد الضوء والصلاة " . رواه الدارقطني وغيره مرسلا ، عن الحسن ، [ ص: 325 ] وإبراهيم ، والزهري ، ومراسيلهم كلها ترجع إلى أبي العالية ، ومراسيله قد ضعفت .

وروي مسندا من وجوه واهية جدا ، وقد طعن فيه من جهة أن الصحابة كيف يظن بهم الضحك في الصلاة ، وهذا ضعيف ، فإن الذي ضحك بعضهم ، ولعلهم من الذين انفضوا من الجمعة لما جاءت العير وسمعوا اللهو ، ثم الضحك أمر غالب قد يعذر فيه بعض الناس ، ومثل هذا الحديث لا يوجب شريعة ليس لها أصل ولا نظير من غيره ، وإنما عملنا به في الاستحباب لثلاثة وجوه :

أحدها : أن المستحبات يحتج فيها بالأحاديث الضعاف إذا لم يكن فيها تغيير أصل ؛ لما روى الترمذي ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 326 ] " من بلغه عن الله شيء فيه فضل فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك " .

وثانيها : أنه بتقدير صحته ليس فيها تصريح بانتقاض وضوئهم ، لعلهم أمروا بذلك ؛ لأن القهقهة في الصلاة ذنب وخطيئة ، فيستحب الوضوء والصلاة عقبها ، كما جاء في حديث أبي بكر المتقدم ، وكما أمر اللذين اغتابا بأن يعيدا الوضوء والصلاة في حديث ابن عباس ، وكما قد حمل بعضهم حديث معاذ في الذي لمس المرأة ، وهذا لأن القهقهة في الصلاة استخفاف بها واستهانة ، فيستحب الوضوء منها كالوضوء من الكلام المحرم ، وهذا أقرب إلى قياس الأصول ، وأشبه بالسنة ، فحمل الحديث عليه أولى .

الوجه الثاني : لا يستحب ولا يكره ، وهو ظاهر كلامه ، فإنه قال : " لا أرى عليه الوضوء " فإن توضأ فذلك إليه ؛ إذ لا نص فيه ، والقياس لا يقتضيه . ولو أزال من محل وضوئه ظفرا أو شعرا - ظهرت بشرته أو لم تظهر - فإن [ ص: 327 ] وضوءه بحاله ، نص عليه ؛ لأن الفرض متعلق بظاهر الشعر والظفر ، فظهور الباطن لا يبطله ، كما لو انكشط جلده أو قطعت يده ؛ ولهذا لا يجزئ غسل البشرة المستترة باللحية عن ظاهرها ، بخلاف قدم الماسح ورأسه ، وفرق أحمد بينهما بأن هذا شيء يسير فهو ، كما لو نتف شعرة . وقد روي عن ابن عمر أنه قلم أظافره فقال له رجل : " ألا تتوضأ ؟ " فقال : " أتوضأ ؟ إنك لأكيس ممن سمته أمه كيسان " . واستحسن بعض أصحابنا أن يتوضأ من ذلك أو يمر عليه الماء ؛ لأن بعض السلف أوجب الوضوء من ذلك ، ففيه خروج من الاختلاف .

وقد روى حرب في مسائله " أن عليا كان إذا قلم أظفاره وأخذ شاربه توضأ ، وإذا احتجم اغتسل " والمنصوص عن أحمد والقاضي استحباب مسحه بالماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية