صفحة جزء
مسألة :

( يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر ) .

في هذا الكلام فصول : -

أحدها : أن الحج واجب في الجملة ، وهو أحد مباني الإسلام الخمس ، وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة وتناقلته خلفا عن سلف ، والأصل فيه قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ، وحرف على للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق فقيل : لفلان على فلان ، وقد أتبعه بقوله : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر ، وأنه إنما وضع البيت وأوجب حجه ليشهدوا منافع لهم لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه ، لأن الله غني عن العالمين ، [ ص: 77 ] وكذلك قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) على أحد التأويلين ، وقوله : ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) فأذن فيهم : "إن لربكم بيتا فحجوه " .

وأما السنة : فما روى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت " متفق عليه . وفي حديث جبريل في رواية عمر - رضي الله عنه - أنه قال للنبي- صلى الله عليه وسلم ما الإسلام ؟ قال : "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " [ ص: 78 ] رواه مسلم . وليس ذكر الحج في حديث أبي هريرة المتفق عليه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى قوله : " إن الله فرض عليكم الحج فحجوا " رواه مسلم وغيره وأحاديث كثيرة في هذا المعنى .

وعن شريك بن أبي نمر ، عن أنس بن مالك قال : بينما نحن جلوس مع [ ص: 79 ] النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد إذ دخل رجل على جمل ثم أناخه في المسجد ، ثم عقله ، ثم قال : أيكم محمد ؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ بين ظهرانيهم فقلنا : هذا الرجل الأبيض المتكئ . فقال له الرجل :ابن عبد المطلب ؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : "قد أجبتك " فقال الرجل : إني سائلك فمشدد عليك في المسألة ، فلا تجد علي في نفسك . فقال : "سل عما بدا لك " فقال : أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ قال : اللهم نعم ، قال : أنشدك بالله آلله أمر أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ قال : "اللهم نعم " قال : أنشدك الله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟ قال : "اللهم نعم " قال : أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " اللهم نعم " فقال الرجل : آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو [ ص: 80 ] بني سعد بن بكر ، رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي عن إسماعيل ، وعلي بن عبد الحميد ، وقال : رواه سليمان عن ثابت عن أنس [ ص: 81 ] عن النبي-صلى الله عليه وسلم- مثله ، وروى مسلم وأحمد والترمذي ، والنسائي من حديث ثابت عن أنس قال : نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ! قال : "صدق " قال : فمن خلق السماء ؟ قال : "الله " قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : "الله " قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : "الله " قال : فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال : "نعم " قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا ، وليلتنا ؟ قال : "صدق " قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : "نعم " قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا ؟ قال : "صدق" قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : "نعم" قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا ؟ قال : " صدق " قال : ثم ولى وقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ، ولا أنقص منهن . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إن صدق ليدخلن الجنة" .

[ ص: 82 ] وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في أصحابه في المسجد وكان ضمام بن ثعلبة رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين قال : فأقبل حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في أصحابه فقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أنا ابن عبد المطلب " قال : أمحمد ؟ قال : نعم ، قال : يا ابن عبد المطلب إني سائلك ، ومغلظ عليك في المسألة ، فلا تجدن في نفسك ، فقال : "لا أجد في نفسي سل عما بدا لك" قال : أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه ؟ قال : "اللهم نعم" قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك : آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس ؟ قال : "اللهم نعم" قال : ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة : الزكاة ، والصيام ، والحج ، وشرائع الإسلام كلها يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها حتى إذا فرغ [ ص: 83 ] قال : فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص ، قال : ثم انصرف إلى بعيره ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة" قال : فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال : ما بئست اللات والعزى ؟ قالوا : مه يا ضمام اتق البرص ، اتق الجذام ، اتق الجنون ، قال : ويلكم إنهما والله ما يضران ، وما ينفعان ، وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ، فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته من رجل ولا امرأة إلا مسلما . قال ابن عباس : فما سمعنا بوافد قط كان أفضل من ضمام بن ثعلبة ، ورواه أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق وهذا لفظ المغازي [ ص: 84 ] واختلف في سنة قدومه . فقيل : كان ذلك في سنة خمس قاله محمد بن حبيب وغيره وروى عن شريك عن كريب عن ابن عباس -رضي الله عنهما- حديث ابن عباس وفيه - "بعث بنو سعد ضماما في رجب سنة خمس ، وقيل : في سنة سبع ، وقيل : في سنة تسع " ذكره ابن هشام عن [ ص: 85 ] أبي عبيدة ، وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب البصري المعروف بالحاكم في تاريخه : لوامع الأمور وحوادث الدهور . وزعم ابن عبد البر أن هذا هو الأعرابي الثائر الرأس الذي من أهل نجد الذي يروي حديثه أبو طلحة [ ص: 86 ] ويروي نحوا منه أبو هريرة . وهذا فيه نظر لأن ذاك -أولا- أعرابي ، وهذا من بني سعد بن بكر ، ثم ذاك رجل ثائر الرأس ، وهذا رجل له عقيصتان ، ثم ذاك رجل يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول ، وهذا رجل عاقل جلد ، ثم ذاك ليس في حديثه إلا التوحيد ، والصلاة والزكاة والصوم . فإن كان هذا هو ذاك : فليس ذكر الحج إلا في بعض رواياته . والذي في الصحيحين ليس فيه شيء من هذا ولا يسعهم أن يتركوه - وهو يقول لا أزيد ولا أنقص فإن كانت سعد هذه سعد بن بكر بن هوازن أظآر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء كانوا مشركين يوم حنين - وكانت حنين في أواخر سنة ثمان من الهجرة وقدم وفد هوازن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منصرفه - وهو [ ص: 87 ] بالجعرانة - عن حصار الطائف فأسلموا ، ومن النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيهم - والقصة مشهورة . فتكون بنو بكر بن سعد بن بكر قد أوفدت ضماما في سنة تسع ، وفيها أسلمت ثقيف أيضا ، وهذه السنة هي سنة الوفود .

وقد أجمع المسلمون -في الجملة- على أن الحج فرض لازم

التالي السابق


الخدمات العلمية