[ ص: 183 ] مسألة : ( فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة ، وعمرة ) وجملة ذلك أن من 
وجب عليه أن يحج بنفسه ، أو نائبه في حياته ، ففرط في ذلك حتى مات ، وله تركة : وجب أن تخرج من ماله حجة وعمرة إذا قلنا بوجوبها ، وهو المشهور في المذهب . 
وكذلك من وجب عليه ولم يفرط ؛ وهو من كان به مرض يرجى برؤه ، أو كان محبوسا ، أو ممنوعا ، أو كان بطريقة عاقة ، أو ضاق الوقت عن حجه وعمرته ، أو لم يكن للمرأة محرم إذا قلنا بوجوب الحج في ذمتهم ، ويكون هذا الحج دينا عليه يخرج من رأس ماله مقدما على الوصايا والمواريث . هذا مذهب 
أحمد  ، نص عليه - في موضع - وأصحابه ، كما قلنا مثل ذلك في الزكاة والصيام ؛ لأن الحج دين من الديون ، بدليل ما روى 
عبد الله بن الزبير    - رضي الله عنهما - قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014909جاء رجل من خثعم  إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أبي أدركه الإسلام ، وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل ، والحج مكتوب عليه أفأحج عنه ؟ قال : ( أنت أكبر ولده ؟ ) قال : نعم ، قال : ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزئ عنه ؟ قال : نعم ، قال : فاحجج عنه   ) . رواه 
أحمد   nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي    .  
[ ص: 184 ] وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16049سليمان بن يسار  ، عن 
الفضل بن عباس    : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014910أنه كان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله ، إن أمي عجوز كبيرة ، وإن حملتها لم تستمسك ، وإن ربطتها خشيت أن أقتلها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم ، قال : فاحجج عن أمك   ) . رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي  ، وقال : لم يسمع 
 nindex.php?page=showalam&ids=16049سليمان بن يسار  من 
الفضل  ، ورواه 
أحمد  عن 
سليمان  ، عن 
عبيد الله  ، عن 
الفضل بن عباس    : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014911أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته ، أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان عليه دين فقضيته عنه أكان يجزيه ؟ قال : نعم ، قال : فاحجج عن أبيك   ) . وهذا أشبه بالصواب ؛ لأن الذي   
[ ص: 185 ] في حديث 
الفضل  إنما سألت عن أمها ، وبدليل ما سيأتي من الأحاديث ، وإذا كان بمنزلة الدين دخل في عموم قوله : ( 
من بعد وصية يوصى بها أو دين   ) فإن الله - سبحانه - عم بقوله : ( 
أو دين   ) فإنها نكرة في سياق معنى النفي ؛ لأن قوله : ( 
من بعد وصية يوصى بها أو دين   ) في معنى قوله : إنما الميراث بعد وصية أو دين ، ولم يخصص دين الآدمي من دين الله - سبحانه - ، ولهذا لو كان قد نذر الصدقة بمال ، ومات قبل أن يتصدق : أخرج عنه من صلب المال . 
وأيضا عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=134بريدة بن الحصيب  قال : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014912بينما أنا جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتته امرأة ، فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت ، فقال : وجب أجرك ، وردها عليك الميراث ، قالت : يا رسول الله ، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها   ) ؟ رواه 
أحمد   nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم  ، 
 nindex.php?page=showalam&ids=11998وأبو داود   nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي  ، وقال : حديث حسن صحيح . 
وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    - رضي الله عنهما - 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014913أن امرأة من جهينة  جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ( إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء   ) . رواه 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري    . 
وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  قال : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014914أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني  أن يسأل   [ ص: 186 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزئ أمها أن تحج عنها ؟ قال : نعم ، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها ؟ فلتحج عن أمها   ) . وعنه أيضا : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014915أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبيها مات ولم يحج ، قال : حجي عن أبيك   ) . وعنه قال : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014916قال رجل : يا نبي الله ، إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق   ) . رواهن 
 nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي    . 
فوجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه : - 
أحدها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بفعل حجة الإسلام 
والحجة المنذورة عن الميت ، وبين أنها تجزئ عنه ، وهذا يدل على بقائها في ذمته ، وأنها لم تسقط بالموت ، وأنها تؤدى عنه بعد الموت . 
وكل ما يبقى من الحقوق بعد الموت ويؤدى بعد الموت : فإنه يجب فعله   
[ ص: 187 ] بعد الموت إذا كان له ما يفعل منه ، وذلك لأن من يقول : لا يجب فعله بعد الموت يزعم أن حجة الإسلام قد سقطت بالموت ، وأن الذي يفعل عنه حج تطوع له أجره ، وثوابه ؛ لأن الواجب - زعم - لا يفعل إلا بإذنه حتى لو أوصى بذلك فإن الذي يوصى به ليس هو حجة الإسلام عنده ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن نفس الواجب هو الذي يقضى عنه . 
والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الحج دين في ذمته ، وكل من عليه دين فإنه يجب أنه يقضى عنه من تركته بنص القرآن . 
الثالث : قوله : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014917اقضوا الله فالله أحق بالوفاء   ) . وقوله : في حديث آخر عن الصوم ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014918فحق الله أحق   ) : إما أن يكون معناه أن قضاء دين الله أوجب من قضاء دين الآدمي كما فسره بذلك القاضي وغيره من أصحابنا ؛ لأن وجوبه أوكد ،   
[ ص: 188 ] وأثبت ، ويرجح هذا المعنى أن وجوب الحج والزكاة آكد من وجوب قضاء دين الآدمي ؛ لأنهما من مباني الإسلام مع ظاهر قوله : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16014919فالله أحق بالوفاء   ) فعلى هذا إذا وجب قضاء دين الآدمي من تركته فأن يجب قضاء دين الله أولى وأحرى . 
وإما أن يكون معناه : إذا كان قضاء دين الآدمي يجزئ عنه بعد الموت فدين الله أحق أن يجزئ ؛ لأن الله - تعالى - كريم جواد ، ومن يكون أحرى بقبول القضاء : فحقه أولى أن يقضى ؛ لأنه أجدر أن يحصل بقضائه براءة الذمة ، ويرجح هذا المعنى أن القوم إنما سألوه عن جواز 
القضاء عن الميت لا عن وجوبه عليهم ، فعلى هذا إذا وجب فعل الدين عنه لبقائه وكونه يجزئ عنه بعد الموت ، [ وجب 
قضاء الحج ونحوه عنه لبقائه ، وكونه يجزئ بعد الموت ] لأن معناهما واحد . 
الرابع : أن هذه الأحاديث تقتضي جواز فعل 
الحج المفروض عن الميت ، سواء وصى بذلك ، أو لم يوص ، وسواء كان له تركة أو لم يكن ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسألهم عن تركة خلفوها ، وتقتضي أن ذلك يجزئ عنه ، ويؤدي عنه ما وجب عليه ، وهذه الأحكام بعينها أحكام ديون الآدميين . 
الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الولي أن يحج عنه ، والأمر يقتضي الوجوب لا سيما وقد شبهه بالدين الذي يجب قضاؤه من تركته ، ولما كان الدين يجب قضاؤه إن كانت له تركة ، ويستحب قضاؤه إذا لم يكن له تركة فكذلك الحج   
[ ص: 189 ] وأيضا : فقد تقدم إجماع الصحابة أنه 
إذا مات وعليه صيام من رمضان أطعم عنه ، كما يطعم عن نفسه إذا كان شيخا كبيرا ، فإذا وجب الإطعام في تركته فكذلك يجب الحج من تركته ، ولا فرق . وأيضا : فإن الحج حق مستقر في حياته تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كديون الآدمي ؛ ولأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كديون الآدميين . 
فإن قيل : إذا مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد ، بدليل قوله : ( 
ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله   ) - إلى قوله : ( 
وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين   ) ، وقوله :   
[ ص: 190 ]   ( 
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون   ) ؛ ولأنه إذا 
مات قبل أن يحج مات عاصيا على كبيرة من الكبائر ، بل تخوف عليه أن يموت على غير الإسلام ، كما يذكر إن شاء الله في مسألة الفور ، فلو كان الحج يجب أن يفعل عنه - بعد موته - ويجزؤه كما يجزؤه لو فعله في حياته لكان يجوز للرجل أن يؤخر الحج إلى ما بعد الموت ، كما له أن يؤخر إلى آخر حياته عند من يجوز تأخيره . والذي يبين ذلك أن الحج وغيره من العبادة ابتلاء للعبد وامتحان له ، وأمر له بأن يعبد الله ، وهذا القدر لا يحصل إلا بأن يقصد العبادة ويفعلها بنفسه ، أو يأمر من يفعلها . وبالموت قد تعذر ذلك ، ولهذا لو حج عنه في حياته غيره بغير إذنه لم يجز عنه ، وهذا بخلاف دين العبد ، فإنه لا يفتقر إلى النية ، ويصح بدون إذنه ، لو أداه عنه غيره بغير إذنه جاز ولو اقتضاه الغريم من ماله بدون إذنه برئت ذمته . 
وإذا كان كذلك فيجب أن تحمل الأحاديث على قوم لم يحجوا ، ولم يجب عليهم الحج لكونهم لم يملكوا زادا وراحلة ، أو على أنه وإن وجب عليهم لكن لهم ثواب وأجر ما يفعل عنهم لا أن الواجب نفسه يسقط ، وإذا لم يسقط الواجب : لم يجب على الورثة شيء . 
قلنا : لا ريب أنه يموت عاصيا معرضا للوعيد ، لكن هذا لا يوجب سقوطه عنه ، وعدم صحته ، ووجوبه بعد موته ؛ كمن أخر الصلاة عامدا حتى خرج وقتها ،   
[ ص: 191 ] أو أفطر في رمضان عمدا . فإن ذلك من الكبائر وإن وجب عليه القضاء ، وأجزأ عنه ، وكذلك من مطل الغرماء بديونهم مع اليسار حتى مات فإنه يأثم بهذا المطل والتأخير ، ويؤدى عنه بعد موته ، ويجزؤه ، بل عندنا لو أخره لغير عذر ، ثم فعله في آخر عمره أجزأ عنه ، وأثم بالتأخير إلا أن يتوب ويستغفر . وهذا لأن الله - سبحانه وتعالى - أوجب عليه أن يحج ، وأن يكون الحج بنفسه ، كما أوجب عليه أن يصلي ، ويصوم ، وأن يفعل الصلاة والصوم في وقتهما ، فمتى تعذر عليه فعله بنفسه ، وهو أحد الواجبين : لم يسقط الواجب الآخر وهو مطلق الحج الذي يمكن أن يفعل عنه ، وإذا تعذر فعل العبادة في وقتها لم يسقط نفس الفعل ، بل يفعل بعد الوقت . 
فهذا الذي أخر الحج حتى مات : إن لم يفعل عنه لحقه وعيد ترك الحج بالكلية ، وإن فعل عنه أجزأ عنه نفس الحج ، وبقي إثم تأخيره وتفريطه فيه ، وترك فعله ، كما يبقى على من يقضي الدين إثم المطل وأشد . وسؤاله الرجعة ، [ وكونه يخاف عليه الموت على غير الإسلام : حق ؛ لأن ذلك لأجل تركه ] الحج بنفسه وتفريطه فيه ، كما أن من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمله وإن قضاها ، وكما يلحق الوعيد الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وإن صلوها بعد الوقت . وهنا قد قضوها بأنفسهم ، فكيف بمن يقضي عنه غيره بغير إذنه . 
ولأن هذا النكال وهذا الخطر والعذاب الشديد يكون [ حين الموت قبل أن   
[ ص: 192 ] يحج عنه ] ، فإذا حج عنه خفف عنه ذلك بدليل ... . 
ولأنه ليس كل من مات يحج عنه ، إما لأنه قد لا يخلف مالا ، أو لأنه قد يتهاون الورثة في الإخراج عنه ، فمن كان في علم الله أنه يحج عنه يكون أمره أخف . 
وأما كون الفرائض لا يصح فعلها إلا بنية المكلف وأمره ؛ لأن امتثال الأمر بدون ذلك محال ، فذلك فيما وجب أن يفعله بنفسه ، ولهذا لو حج عنه غيره حجة الإسلام في حياته بدون أمره لم يصح ، فإذا مات صار المخاطب بالوجوب غيره ، وهم الورثة ثم إن الله - تعالى - بكرمه وجوده أقام فعلهم عنه مقام فعله بنفسه وإن كان لم يفرط في التأخير لكونه معذورا ، وإن كان فرط قام مقامه في نفس الفعل ، وبقي إثم الترك عليه هو إلى الله - تعالى - إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ؛ وهذا لأن ما وجب أن يفعله بنفسه يستحيل أن ينويه غيره ، فأما إذا كان الوجوب على غيره مثل أداء الزكاة من مال اليتيم فإن المخاطب بها هو الولي . 
يبقى 
الحج عن المعضوب هل يجزئ عنه بدون إذنه ؟ قال أصحابنا :   
[ ص: 193 ] لا يجزئ عنه بدون إذنه ويتوجه ... . 
وأيضا فإن ذلك ما دام إذنه ممكنا فعند تعذر إذنه يجوز أن يجعل الله فعل غيره قائما مقام فعله في الواجبات ، وامتثال الأوامر كما قد يقوم فعل غيره مقام فعله في المندوبات ، وحصول الثواب كما تقدم في مسألة إهداء الثواب للموتى ، وتقدم تقرير هذه القاعدة ، وأن من زعم أن العمل لا ينفع غير عامله في جميع المواضع فقد خرج عن دين الإسلام .