صفحة جزء
[ ص: 327 ] ( فصل )

وأما المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل سواء في ذلك أهل البلد وغيرهم ممن هو في الحرم ، قال أحمد - في رواية الميموني - ليس على أهل مكة عمرة ، وإنما العمرة لغيرهم ، قال الله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) إلا أن ابن عباس قال : " يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر " .

وإذا أراد المكي وغيره العمرة : أهل من الحل ، وأدناه من التنعيم ، وقال أيضا : " ليس على أهل مكة عمرة ؛ لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم وتجاوز الحرم " وذلك لما روت عائشة قالت : " لما خرجت معه - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ، ثم لتطف بالبيت ، فإني أنتظركما هاهنا ، فخرجنا فأهللت ثم طفت بالبيت ، وبالصفا والمروة فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزله في جوف الليل ، فقال : هل فرغت ، قلت : نعم ، فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى [ ص: 328 ] المدينة " [ متفق عليه وفي رواية ] متفق عليها من حديث القاسم والأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد ، قال : انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم ، فأهلي منه ، ثم ائتينا بمكان كذا وكذا ، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك " وفي لفظ متفق عليه : " فلما كانت ليلة الحصبة قالت : قلت : يا رسول الله ، يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة ، قال : أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ، قالت : قلت : لا ، قال : فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ، فأهلي بعمرة ، ثم موعدك مكان كذا وكذا " متفق عليه .

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال : " أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أردف عائشة ، وأعمرها من التنعيم " متفق عليه ، [ ص: 329 ] وعن ابن سيرين قال : " وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة التنعيم " رواه أبو داود في مراسيله ، وعن ابن عباس ... .

فقد تبين : أن العمرة لمن هو بالحرم لا بد فيها من الخروج إلى الحل ، قال أصحابنا وغيرهم : لأنه لا بد في النسك من الجمع بين الحل والحرم ، وأفعال العمرة هي في الحرم ، فلو أحرم بالعمرة من الحرم لما وقع شيء منها في الحل ، بخلاف الحج فإن أحد ركنيه وهو الوقوف بعرفة يقع في الحل لأن عرفات من الحل ، وذلك لأن العمرة هي الزيارة ، ومنه العمرة ، وهو أن يبني الرجل بامرأته في أهلها ، فإن نقلها إلى أهله فهو العرس قاله ابن الأعرابي .

والزيارة لا تكون مع الإقامة بالمزور وإنما تكون إذا كان خارجا منه فجاء [ ص: 330 ] إليه ليزوره ، ولهذا - والله أعلم - لم يكن على أهل مكة عمرة لأنهم مقيمون بالبيت على الدوام .

وأيضا : فإن العمرة هي الحج الأصغر ، والحج أن يقصد المحجوج في بيته ، والحرم هو فناء بيت الله فمن لم يقصد الحرم من الحل لم يتحقق معنى الحج في حقه إذ هو لم ينزح من داره ، ولم يقصد المحجوج .

والإحرام بالعمرة من أقصى الحل أفضل من أدناه ، وكلما تباعد فيها فهو أفضل حتى يصير إلى الميقات .

قال أحمد في رواية الحسن بن محمد ، وقد سئل من أين يعتمر الرجل ؟ قال : يخرج إلى المواقيت فهو أحب إلي كما فعل ابن عمر وابن الزبير وعائشة رضوان الله عليهم أحرموا من المواقيت ، فإن أحرم من التنعيم فهو عمرة وذاك أفضل ، والعمرة على قدر تعبها .

والعمرة كلما تباعد فيها أعظم للأجر ، وهو على قدر تعبها وإن دخل في شعبان ، أو رمضان فإن شاء أن يعتمر اعتمر .

وقال عبد الله : سألت أبي عن عمرة المحرم تراه من مسجد عائشة أو من [ ص: 331 ] الميقات - أو المقام بمكة والطواف بقدر ما تعبت ، أو الخروج إلى الميقات للعمرة ؟ فقال : يروى عن عائشة أنها قالت - في عمرة التنعيم - : " هي على قدر نصبها ونفقتها " فكلما كان أكثر من النفقة والتعب فالأجر على قدر ذلك .

وهذا نص بأن الخروج بها إلى الميقات أفضل ، وأن ذلك أفضل من المقام بمكة .

وقال - في رواية أبي طالب - قال الله عز وجل : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وقالت عائشة : إنما العمرة على قدر سفرك ونفقتك ، وقال عمر رضي الله عنه للرجل : اذهب إلى علي رضي الله عنه فقال علي : أحرم من دويرة أهلك .

وقال طاوس : الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون أو يعذبون ؟ قيل له : فلم يعذبون ! قال : لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ، [ ص: 332 ] ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف ، وكلما طاف كان أعظم أجرا من أن يمشي في غير شيء ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : " ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك " .

وعن علقمة - في العمرة بعد الحج - : هي بحسبها ، قالت عائشة : " له من الأجر على قدر نفقته ومسيره " رواه سعيد .

فعلى هذا يستحب لمن هو بمكة من غير أهلها : أن يخرج إلى أقصى الحل وإن خرج إلى ميقاته فهو أفضل ، وإن رجع إلى مصره فأنشأ لها سفرة أخرى فهو أفضل من الجميع ، وكذلك قال أبو بكر : العمرة على قدر تعبها ونصبها ، وبعد موضعها ونفقتها ، وأن ينشئ لها قصدا من موضعه ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " كلما تباعد في العمرة فهو أعظم أجرا " .

وظاهر هذا يقتضي أن المستحب أن يتباعد فيحرم من الميقات الشرعي ، وهو أفضل من إحرامه من أدنى الحل .

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما : المستحب أن يحرم بالعمرة من الميقات الشرعي على ظاهر كلامه ، قال في رواية صالح : والعمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف ، ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف .

[ ص: 333 ] واحتج من اختارها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمر عائشة من التنعيم .

وقال القاضي : يستحب الإحرام من الجعرانة ، فإن فاته ذلك أحرم من التنعيم فإن فاته فمن الحديبية .

وكذلك ذكر ابن عقيل إلا أنه لم يذكر التنعيم هنا ، وعمدة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر من الجعرانة ، واعتمر عمرة الحديبية وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم ، فخصت هذه بالفضل ، وكان أفضل هذه المواقيت .

وقال أبو الخطاب : الأفضل أن يحرم من التنعيم ، فأما الاعتمار من الحديبية فلا فضل فيه على غيره ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر من الحديبية قط ، وإنما اعتمر من ذي الحليفة ، فلما صده المشركون حل بالحديبية من إحرامه ، وكذلك الجعرانة ليس في خروج المكي إليها بخصوصها سنة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر من مكة قط ، وإنما أعمر عائشة رضي الله عنها من [ ص: 334 ] التنعيم في حجة الوداع ، وإنما اعتمر من الجعرانة لما قسم غنائم حنين لأنها كانت الموضع الذي أنشأ منه العمرة وهو دون المواقيت فينشئ العمرة من موضعه ، ولا يقاس بهذا أن يخرج المكي إلى ذاك الموضع فيحرم منه .

وإنما السنة في الخروج إلى الحل من أي الجوانب كان لكن جهة بلد المعتمر ... .

وإن أحرم الحرمي بالعمرة من الحرم : فهو بمنزلة من أحرم دون الميقات فلا يجوز له ذلك ، وإذا فعله فعليه دم لتركه بعض نسكه .

ولا يسقط الدم بخروجه إلى الحرم ، كما لا يسقط الدم بعوده إلى الميقات إذا أحرم دونه ، لكنه إن خرج إلى الحل قبل الطواف ورجع صحت عمرته ، وإن لم يخرج إلى الحل حتى طاف وسعى وقصر : ففيه وجهان خرجهما القاضي وغيره :

أحدهما : أنه لا يعتد بطوافه وسعيه ، بل يقع باطلا لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج .

ولأن الحل لو لم يجب إلا لأنه ميقات لكان من إن شاء العمرة دونه تجزئه [ ص: 335 ] كمواقيت الحج ، ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة أن تخرج إلى الحل فتهل بالعمرة : علم أنه لا بد أن تكون العمرة من الحل .

فعلى هذا وجود الطواف وما بعده كعدمه لا يتحلل بذلك ، بل عليه أن يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك ، فإن قصر رأسه كان بمنزلة من قصر قبل الطواف فعليه دم ، وإن وطئ لاعتقاده أنه تحلل كان كمن وطئ قبل الطواف فتفسد بذلك عمرته وعليه دم الإفساد ، وإتمامها بالخروج إلى الحل والطواف بعد ذلك وقضاها بعد ذلك .

والثاني : وهو المشهور وهو الذي ذكره أبو الخطاب وغيره : أن العمرة صحيحة ، وعليه دم لما تركه من الإحرام من الميقات لأن من ترك من نسكه شيئا فعليه دم ، لأن أكثر ما فيه أنه ترك بعض الميقات وهذا لا يفسد الحج ، وإنما يوجب الدم .

ابن أبي موسى : ومن أراد العمرة من أهل مكة : فليخرج إلى أقرب الحل فيحرم منه ، ومن كان بمكة من غير أهلها ، وأراد العمرة الواجبة : فليخرج إلى الميقات ليحرم بها ، وإن لم يخرج إلى الميقات وأحرم بها دون الميقات أجزأته وعليه دم ، كما قلنا فيمن جاوز الميقات غير محرم ، ثم أحرم بالحج : إن عليه دما .

التالي السابق


الخدمات العلمية