صفحة جزء
[ ص: 338 ] مسألة : ( ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح أو حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه ، ثم إن أراد النسك أحرم من موضعه ، وإن تجاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ، فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع .

في هذا الكلام فصول :

الأول :

أن من مر بهذه المواقيت غير مريد لمكة ، بل يريد موضعا من الحل : فلا إحرام عليه .

وإن أراد موضعا من الحرم غير مكة .. .

وإن أراد مكة للحج أو العمرة لم يجز له تجاوز الميقات إلا محرما ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن " وهذا أمر بصيغة الخبر، وكذلك قوله : " وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة " إلى قوله : " هن لهن ولمن [ ص: 339 ] أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة " وإنما فائدة التوقيت : وجوب الإحرام من هذه المواقيت ؛ لأن ما قبلها يجوز الإحرام منه فلو كان ما بعدها يجوز تأخير الإحرام إليه لم يكن لها فائدة .

وإن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة مثل تجارة أو زيارة أو سكن أو طلب علم أو غير ذلك من الحاجات التي لا يشق معها الإحرام ، فإن السنة أن لا يدخلها إلا محرما بحجة أو بعمرة ، سواء كان واجبا أو تطوعا وهذا واجب عليه في أشهر الروايتين .

قال في رواية ابن منصور : لا يدخلها أحد إلا بإحرام ، وقال في رواية ابن إبراهيم وقد سئل عن رجل أراد أن يدخل مكة بتجارة : أيجوز أن يدخلها بغير إحرام ؟ فقال : لا يدخل مكة إلا بإحرام يطوف ويسعى ويحلق ، ثم يحل ، وقد نص على ذلك في مواضع .

[ ص: 340 ] والرواية الأخرى : أنه مستحب وترك الإحرام مكروه ، قال في رواية الأثرم والمروذي : لا يعجبني أن يدخل مكة تاجر ، ولا غيره إلا بإحرام تعظيما للحرم ، وقد دخل ابن عمر بغير إحرام .

لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الحج والعمرة إنما تجب مرة واحدة ، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المواقيت : " هن لهن ولكل من أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة " وهذا لا يريد حجا ولا عمرة ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع هو وأصحابه من حنين إلى مكة ... .

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث عثمان عام الحديبية ليخبرهم بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة .

[ ص: 341 ] ولأن الصحابة الذين بعثهم لاستخراج خبيب ... .

ولأن هذه قربة مشروعة لتعظيم البقعة فلم تجب ؛ كتحية المسجد الحرام بالطواف وتحية غيره بالصلاة .

وهل يجوز أن يحضر عرفة والموسم مع الناس من لم ينو الحج ولم يحرم من أهل مكة أو غيرهم ؟ ظاهر حديث عمر وابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يجوز تعظيما للفعل كتعظيم المكان .

ووجه الأول : ما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ ص: 342 ] " لا يدخل مكة تاجر ، ولا طالب حاجة إلا وهو محرم " رواه سعيد والأثرم وفي رواية قال : " لا يدخلن أحد من الناس مكة من أهلها ولا من غيرهم غير حرام " رواه حرب ، ولا يعرف له مخالف ، وسنتكلم على أثر ابن عمر .

وأيضا : ما روي عن مجاهد وطاوس قالا : " ما دخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلا وهم محرمون " .

وفي رواية عن هشام بن حجير أظنه عن طاوس قال : " ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة إلا محرما إلا عام الفتح " .

وعن عطاء قال : " ما نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة قط إلا وهم [ ص: 343 ] محرمون " رواهن سعيد .

وعن خصيف عن سعيد بن جبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم إلا من كان أهله دون الميقات " ذكره بعض الفقهاء .

ولا فرق بين أن يكون دون المواقيت إلى مكة ، أو يكون وراء المواقيت قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي : لا يدخل أحد مكة بغير إحرام ، [ ص: 344 ] وقد أرخص للحطابين والرعاة ، ونحو هؤلاء أن يدخلوا بغير إحرام فقيل له : إنهم يقولون : ابن عمر لم يكن بلغ الميقات فمن أجل ذلك دخل بغير إحرام فقال : الميقات وغيره سواء ، وإنما رجع لاضطراب الناس والفتنة فدخل كما هو .

وكان ابن عباس يشدد في ذلك ، فقيل له : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها عام الفتح بغير إحرام ؟ فقال : ذلك من أجل الحرب ألا تراه يقول : " حلت لي ساعة من نهار " وهذا يدخل مع فعل ابن عمر .

وقال في رواية الأثرم في الرجل يقيم بمكة متمتعا أو غيره ثم يخرج منها لبعض الحاجة ، فيعجبني أن لا يدخلها إلا بإحرام ، وأن لا يخرج منها أبدا حتى يودع البيت ، فقد أمر بالإحرام كل داخل إليها ممن خرج عنها ، أو لم يخرج سواء كان رجوعه إليها من الميقات أو من فوق ، وهذا لأن المقصود بذلك تعظيم الحرم لشرفه وكرامته ، وذلك يستوي فيه كل داخل إليه ممن قربت داره أو بعدت ؛ ولهذا يستويان في وجوب الإحرام إذا أراد الحج أو العمرة .

وأما نفس مجاوزة الميقات فليس بموجب للإحرام بدليل ما لو لم يقصد مكة ، وإنما قصد بعض أماكن الحل .

[ ص: 345 ] فأما إن قصدها من نفس الحرم : فلا إحرام عليه ؛ لأن الحجيج يدخلونها من منى بعد أن حلوا الحل كله ، ولا إحرام عليهم واجب ولا مستحب ، ولأن الحرم كله شيء واحد ، فأشبه الانتقال في طرقات القرية ، ولأن ذلك فيه مشقة شديدة على القاطنين .

فأما إن أراد بعض مواضع الحرم خارج مكة ، أو أراد أن يخترق الحرم ابن سبيل ، أو أراد أن يخترقها من غير مقام .. .

فإن دخل مكة غير محرم لزمه قضاء هذا الإحرام ، نص عليه في رواية حرب قال : قلت لأحمد : فإن قدم من بلدة بعيدة تاجر فقدم مكة بغير إحرام قال : يرجع إلى الميقات فيهل بعمرة إن كان في غير أيام الحج ، وإن كان في أيام الحج : أهل بحجة .

وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه ، وابنه وأبو الخطاب وغيرهم .

وذكر الشريف أبو جعفر أنه يثبت في ذمته الدم ، وهو إن لم يكن غلطا في النسخة فإنه وهم - والله أعلم - ، ولعل وجهه أنه ترك إحراما واجبا .

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل - في بعض المواضع - وغيرهما [ ص: 346 ] من أصحابنا ليس عليه قضاء ولا دم ولا غير ذلك ؛ لأنها قربة مفعولة لحرمة المكان ، فوجب ألا تقضى كتحية المسجد ، ولأن الإحرام يراد للدخول فإذا حصل الدخول بدونه لم تشرع إعادته كالوضوء لصلاة النافلة ، ولأنها عبادة مشروعة بسبب فتسقط عند فوات السبب كصلاة الكسوف .

فعلى هذا بأي شيء يسقط ؟ هل يسقط بدخول الحرم ؟ وهل يجب عليه أن يعود إلى الميقات ؟ فإن أحرم دونه ... .

ووجه الأول : أنه إحرام لزمه ، فإذا لم يفعله لزمه قضاؤه كالنذر المعين ، ولأن من وجب عليه عبادة ، فإنها لا تسقط بفوات وقتها ، بل عليه إعادتها كسائر الواجبات من الصوم والصلاة والهدي والأضحية وغير ذلك خصوصا الحج ، وهذا لأن الواجب الثابت في الذمة لا بد من فعله على أي حال كان ؛ إما في وقته ، وإما بعد وقته ، وعكسه ما لا يجب من النوافل ، على أنا نقول : النوافل المؤقتة تقضى ، وتحية المسجد على أنه قد يفرق بين من يستديم المكث [ ص: 347 ] وبين من يخرج ، فعلى هذا ... .

فإن قيل : فهو إذا رجع إلى الميقات لزمه إحرام آخر ، قلنا : إنما يلزمه الدخول بإحرام سواء كان وجب عليه قبل ذلك أو لم يجب .

فإن أدى بهذا الإحرام حجة الإسلام ، أو حجة منذورة في سنته أجزأ عنه من عمرة القضاء فيما ذكره أصحابنا ، وهو منصوصه في رواية أبي طالب فيمن دخل مكة بغير إحرام ، وهو يريد الحج فإن كان عليه وقت رجع إلى الميقات فأهل منه ولا شيء عليه ، وهذا لأنه كان مأمورا أن يدخل بإحرام ، ولو أنه للحج المفروض فإذا عاد ففعل ذلك فقد فعل ما كان مأمورا به ، ودخوله حلالا لا يوجب عليه دما كما لو جاوز الميقات غير المحرم ، ثم رجع فأحرم منه .

وإن أخر الحج إلى السنة الثانية لم تجزه حجة الإسلام عنه ، ولزمه حجة أو عمرة ، ذكره القاضي وغيره ؛ لأن حجه في العام المقبل لا يسد مسد الإحرام في [ ص: 348 ] ذلك العام ؛ لأن الإحرام الذي لزمه بالدخول لا يؤدي به الحج في العام المقبل ، ويتخرج أن يجزئه ؛ لأن حجة الإسلام تسقط ما عليه من نذر ، وفاسد على إحدى الروايتين .

وإن أحرم بالحج عما وجب بالدخول : وقع عن حجة الإسلام ، وأما العمرة فمتى اعتمر فإن أحرم هذا بالعمرة أو بالحج بعد مجاوزة الميقات لزمه دم ، وإنما يستقر عليه القضاء بالدخول فلو رجع قبل أن يدخل لم يلزمه شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية