صفحة جزء
وأما إذا ساق الهدي ففيه روايتان :

إحداهما : القران أفضل ، قال - في رواية المروذي - إن ساق الهدي [ ص: 441 ] فالقران أفضل ، وإن لم يسق فالتمتع نقلها أبو حفص .

والثانية : التمتع أفضل بكل حال ، وقد صرح بذلك في رواية حرب قال : سمعت أبا عبد الله يقول : أنا أختار في الحج التمتع قال : وقال ابن عباس هي واجبة ، قال : وسألته مرة أخرى ما تختار في الحج ؟ قال : أنا أختار التمتع يدخل مكة بعمرة ويطوف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ويحل إن لم يكن معه هدي ، فإذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد ، وإن كان ساق الهدي طاف بالبيت وبين الصفا والمروة [ لعمرته ثم قام على إحرامه ] فإذا كان يوم التروية أهل بالحج هذا مذهبه ؛ وذلك لما اعتمده أحمد وبنى مذهبه عليه وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحرم هو وأصحابه من ذي الحليفة قال : " من شاء أن يهل بحج ، ومن شاء أن يهل بعمرة ، ومن شاء أن يهل بعمرة وحج " فلما قدموا مكة : أمرهم كلهم أن يحلوا من إحرامهم إذا طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ، ويجعلوها عمرة ، ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج إلا من ساق الهدي فإن سوق الهدي يمنعه من التحلل .

وكان دخولهم مكة يوم الأحد رابع ذي الحجة ، فلما كان يوم التروية أمرهم [ ص: 442 ] أن يهلوا بالحج ، فحج المسلمون كلهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره متمتعين حجة الوداع التي هي أكمل بها الدين وأتم بها النعمة ، وقد كرهوا ذلك ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالمتعة ، ويغضب على من لم يفعلها ويقول : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولولا الهدي لأحللت " لعلمه بفضل الإحلال ، فثبت بذلك أن المتعة أفضل من حجة مفردة ، ومن القران بين العمرة والحج من وجوه :

أحدها : أنها آخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه أمرهم بها عينا بعد أن خيرهم عند الميقات بينها وبين غيرها ، فعلم أنه لم يكن يعلم أولا فضل المتعة حتى أمره الله بها وحضه عليها ، فأمر أصحابه بها وحضهم عليها ، ولو كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أولا من فضل المتعة ما علمه بعد قدومه مكة لكان قد أمرهم بالإهلال بها من الميقات ، ولم يخيرهم بينها وبين غيرها ليستريح من كراهتهم لفسخ الحج ومشقته عليهم ، فإنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ،

[ ولهذا قال : " ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " ] .

[ ص: 443 ] الثاني : أن المسلمين حجوا معه متمتعين جميعهم إلا من ساق الهدي وكانوا قليلا ، وذلك بأمره ، وأمره أبلغ في الإيجاب والاستحباب من فعله لو كان الفعل معارضا له : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) ولا ينبغي لمؤمن أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله ورسوله .

الثالث : أن هذه الحجة حجة الوداع لم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين قبلها ولا بعدها ، وفيها أكمل الله الدين ، وأتم النعمة ، وأحييت مشاعر إبراهيم ، وأميت أمر الجاهلية ، فلم يكن الله تعالى يختار لرسوله ، وللمؤمنين من السبل إلا أقومها ، ومن الأعمال إلا أفضلها ، وقد اختار الله لهم المتعة .

وهذه الجملة التي ذكرناها من حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره المسلمين بالمتعة : مما أجمع عليه علماء الأثر ، واستفاض بين أهل العلم ، واشتهر حتى لعله قد تواتر عندهم ، ونحن نذكر من الأخبار بعض ما يبين ذلك :

[ ص: 444 ] فروى الزهري عن سالم عن أبيه قال : " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس : " من كان أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل وليهد ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أهله " .

وطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة ، فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ، ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ، ثم سلم فانصرف ، فأتى الصفا ، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر ، وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهدى فساق الهدي من الناس
.

وعن الزهري عن عروة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنها أخبرته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " . متفق عليه .

[ ص: 445 ] وعن سالم أنه سمع رجلا - من أهل الشام - وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال عبد الله بن عمر : " هي حلال ، قال الشامي : إن أباك قد نهى عنها ؟ فقال عبد الله بن عمر : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه الترمذي ، وروى النسائي عنه : " العمرة في أشهر الحج تامة قد عمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزلها الله تعالى في كتابه " .

وعن نافع عن ابن عمر : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبد رأسه وأهدى فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن ، قلن ما لك أنت لا تحل ؟ قال : " إني قلدت هديي ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من حجتي وأحلق رأسي " رواه أحمد .

[ ص: 446 ] وعن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله عن عبد الله بن عمر قال : ( قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وأصحابه مهلين بالحج ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي ، قالوا : يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا ؟ ! قال : نعم ، وسطعت المجامر ، وقدم علي بن أبي طالب من اليمن فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بم أهللت ؟ قال : بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فإن لك معنا هديا ، قال حميد : فحدثت به طاوسا فقال : هكذا فعل القوم ) وفي رواية : " اجعلها عمرة " .

وفي رواية ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولبى بالحج ولبينا معه ، فلما قدم أمر من لم يكن معه الهدي أن يجعلوها عمرة " رواه أحمد بإسناد صحيح [ ص: 447 ] وبعضه في الصحيحين .

وذكر ابن الجوزي أنه في الصحيحين ، وأظنه وهما .

وعن الأسود عن عائشة قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، قالت : فحل من لم يكن ساق الهدي ، ونساؤه لم يسقن فأحللن ، قالت عائشة : فحضت فلم أطف بالبيت ، فلما كانت ليلة الحصبة قالت : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة ، قال : أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ، قالت : قلت : لا ، قال : فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا ، قالت صفية : [ ص: 448 ] ما أراني إلا حابستكم ، قال : عقرى حلقى ، أوما كنت طفت يوم النحر ، قالت : بلى ، قال : لا بأس عليك انفري ، قالت عائشة : فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها ، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها " .

وفي رواية الأعمش عن إبراهيم عن الأسود : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة " وساق الحديث بمعناه .

وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة ، ولا نرى إلا أنه الحج فلما كنا [ ص: 449 ] بسرف حضت حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل ، قالت عائشة : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ، فقال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه، قال يحيى : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك والله بالحديث على وجهه " .

وعن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج ، حتى جئنا سرف فطمثت ، فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ [ فقلت : والله لوددت أني لم أكن خرجت العام ، فقال : ما لك ؟ ] لعلك نفست ، قلت : نعم ، قال : هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ، افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى [ ص: 450 ] تطهري ، قالت : فلما قدمت مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : اجعلوها عمرة ، فأحل الناس إلا من كان معه هدي ، قالت : فكان الهدي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، وذي اليسارة ، ثم أهلوا حين راحوا ، قالت : فلما كان يوم النحر طهرت ، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفضت ، قالت : فأتينا بلحم بقر فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر ، فلما كانت ليلة الحصبة قلت : يا رسول الله ، أيرجع الناس بحجة وعمرة ، وأرجع بحجة ؟ قالت : فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله ، قالت : فإني لا أذكر وأنا حديثة السن أنعس فتصيب وجهي مؤخرة الرحل ، حتى جئنا إلى التنعيم فأهللت منها بعمرة جزاء بعمر الناس التي اعتمروا " .

وعن أفلح بن حميد ، عن القاسم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهر الحج ، وليالي الحج ، وحرم الحج فنزلنا بسرف ، قالت : فخرج إلى أصحابه فقال : من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه الهدي فلا ، قالت : فالآخذ بها [ ص: 451 ] والتارك لها من أصحابه ، قالت : فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجال من أصحابه ، فكانوا أهل قوة وكان معهم الهدي ، فلم يقدروا على العمرة ، قالت : فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي ، فقال : ما يبكيك يا هنتاه ؟ قلت : سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة ، قال : وما شأنك ؟ قلت : لا أصلي ، قال : فلا يضرك ، إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن ، فكوني في حجتك ، فعسى الله أن يرزقكيها ، قالت : فخرجنا في حجته ، وفي لفظ : " فخرجت في حجتي " حتى قدمنا منى فطهرت ، ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت ، قالت : ثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه ، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ، ثم افرغا ، ثم ائتيا ها هنا ، فإني أنتظركما حتى تأتياني ، قالت : فخرجنا حتى إذا فرغت ، وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر ، فقال : هل فرغتم ؟ فقلت : نعم ، قالت : فآذن بالرحيل في أصحابه ، فارتحل الناس فمر متوجها إلى المدينة ، وفي لفظ : " فأذن في أصحابه بالرحيل ، فخرج فمر بالبيت ، فطاف به قبل [ ص: 452 ] صلاة الصبح ، ثم خرج إلى المدينة " . متفق على هذه الأحاديث كلها .

وعن ذكوان عن عائشة قالت : " قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس ، فدخل علي وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك أدخله الله النار ، قال : أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ، فلو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا " رواه مسلم .

وعن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولحللت مع الناس حين حلوا " رواه البخاري . فهذا الحديث مبين أن الصحابة حلوا إلا من ساق الهدي . وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صدروا عن مكة ليلة الحصبة ، وهي الليلة التي تلي ليالي منى ، ولم يقيموا بمكة بعد ليالي منى شيئا ، وأنه لم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عائشة وحدها ، حتى أخوها عبد الرحمن الذي كان معها لم يعتمر من التنعيم ؛ لأنهم كانوا قد اعتمروا قبل الحج .

[ ص: 453 ] وقولها : " لا نرى إلا أنه الحج " ؛ تعني : من كان أحرم بالحج ، أو قرن بينهما ، وربما كانوا أكثر الوفد . ترى أنهم يقيمون على حجهم ولا يتحللون منه قبل الوقوف ؛ لأنها قالت : فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، وهي لم تتطوف ، فكانت الكناية عن الحاج في الجملة .

وقولها : لا نذكر حجا ولا عمرة : تعني في التلبية ؛ لأنها قد بينت في رواية أخرى أن منهم من أهل بالحج ، ومنهم من أهل بالعمرة ، ومنهم من قرن بينهما ، وأنها كانت هي متمتعة ، وقولها : فالآخذ بها والتارك لها من الصحابة ، هذا كان بسرف قبل أن يقدموا مكة ؛ لأنه كان إذنا ولم يكن أمرا ، فلما قدموا جزم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر ، وتردد بعض الناس ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - على من تردد ، فأطاعوا الله ورسوله وتمتعوا ، وتوجع النبي - صلى الله عليه وسلم - على كونه لم يمكنه موافقتهم في الإحلال من أجل هديه ، وبين ذلك ما روى عبد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة قالت : " منا من أهل بالحج مفردا ، ومنا من قرن ، ومنا من تمتع " رواه البخاري .

[ ص: 454 ] وروى الزهري ، عن عائشة قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج ، فقدمنا مكة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى يحل بنحر هديه ، ومن أهل بحج فليتم حجه ، قالت : فحضت ، فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ولم أهلل إلا بعمرة ، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أنقض رأسي ، وأمتشط ، وأهل بالحج ، وأترك العمرة ، ففعلت ذلك [ ص: 455 ] حتى قضيت حجتي ، فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم " ، وفي رواية عنها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ، قالت عائشة : وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل معه ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت فيمن أهل بعمرة " .

وعن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج ، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج ، فأما من أهل بعمرة فحل ، وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " .

وعن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحب [ ص: 456 ] أن يهل بعمرة فليهل ، ومن أحب أن يهل بحجة فليهل ، ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة . فمنهم من أهل بعمرة ، ومنهم من أهل بحجة ، فكنت فيمن أهل بعمرة ، فحضت قبل أن أدخل مكة ، فأدركت يوم عرفة وأنا حائض ، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج . ففعلت ، فلما كانت ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم ، فأردفها ، فأهلت بعمرة مكان عمرتها . قال هشام : فقضى الله حجها وعمرتها ، ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صدقة ، ولا صوم " . متفق [ ص: 457 ] على هذه الأحاديث ، وليس في رواية عروة هذه ذكر الفسخ ؛ ولهذا كان ينكره حتى جرى بينه وبين ابن عباس فيه ما جرى . فأما قوله : " ومن أهل بالحج فليتم حجه " : فيتحمل شيئين :

أحدهما : من استمر إهلاله بالحج ، ولم يحوله إلى عمرة ، فإنه لا يتحلل منه ، وكان هذا في حق من ساق الهدي ممن أحرم بالحج ، وكذلك قوله في الحديث : " وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة ، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " . إن لم يكن هذا من قول عروة وكان من قول عائشة ، فإن معناه : من دام إهلاله بالحج ، أو بالحج والعمرة واستمروا : هم الذين لم يحلوا لأجل سوق الهدي ؛ لأنها قد أخبرت في غير موضع أنهم كانوا لا يرون إلا الحج ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يسق الهدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل ، أو أن هذا كان قبل أن يأذن لهم في الفسخ قبل أن يدنوا من مكة في أوائل الإحرام .. . .

وأما قولها : خرجنا موافين لهلال ذي الحجة .. . .

[ ص: 458 ] وعن أبي عمران أسلم قال : " حججت مع موالي ، فدخلت على أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أعتمر قبل أن أحج ؟ قالت : إن شئت فاعتمر قبل أن تحج ، وإن شئت فبعد أن تحج ، قال : فقلت : إنهم يقولون : من كان ضرورة فلا يصلح أن يعتمر قبل أن يحج ، قال : فسألت أمهات المؤمنين فقلن مثل ما قالت ، فرجعت إليها ، فأخبرتها بقولهن ، قال : فقالت : نعم وأشفيك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج " رواه أحمد .

وعن طاوس عن ابن عباس قال : " كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفر ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا [ ص: 459 ] الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ ، قال : حل كله " [ متفق عليه ، وهذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : من أفجر الفجور ، وقال : الحل كله ] .

قال سفيان بن عيينة : كان عمرو يقول : " إن هذا الحديث له شأن " . رواه البخاري .

وعن طاوس عن ابن عباس قال : " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات ، وأبو بكر حتى مات ، وعمر حتى مات ، وعثمان حتى مات ، وكان أول من نهى عنها معاوية ، قال ابن عباس : فعجبت منه ، وقد حدثني أنه قصر عن رسول [ ص: 460 ] الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص " رواه أحمد - وهذا لفظه - والترمذي وقال : حديث حسن ، وفيه ليث بن أبي سليم .

وعن أبي العالية البراء ، عن ابن عباس قال : " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه هدي " . متفق عليه ، وهذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : " لأربع خلون من العشر وهم يلبون بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة " وفي لفظ : " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح بذي طوى ، وقدم لأربع مضين من ذي الحجة ، وأمر أصحابه أن يحلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي " وفي لفظ له : " أهل رسول الله [ ص: 461 ] - صلى الله عليه وسلم - بالحج ، فقدم لأربع مضين من ذي الحجة ، فصلى الصبح ، وقال حين صلى الصبح : من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة " وفي لفظ : " فصلى الصبح بالبطحاء " .

وعن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن عنده هدي فليحلل الحل كله ، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة " . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي .

وعن مجاهد عن ابن عباس قال : " أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج ، فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ، ولم يقصر ولم يحل من أجل الهدي ، وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعى ويقصر ، أو يحلق ثم يحل " رواه أبو داود ، وفيه يزيد بن أبي زياد .

وعن . . . ابن عباس قال : " قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجا فأمرهم فجعلوها عمرة ، ثم قال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما فعلوا ، لكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، ثم أنشب أصابعه [ ص: 462 ] بعضها في بعض ، فحل الناس إلا من كان معه الهدي ، وقدم علي - عليه السلام - من اليمن ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بم أهللت ؟ قال : أهللت بما أهللت به ، قال : فهل معك هدي ؟ قال : لا ، قال : فأقم كما أنت ولك ثلث هديي ، قال : وكان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة " رواه أحمد .

وعن النهاس ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أهل الرجل بالحج ، ثم قدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، فقد حل ، وهي عمرة " رواه أبو داود ، ورواه أحمد وغيره ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس موقوفا ، وهو أشبه .

وعن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن متعة الحج ، فقال : " أهل المهاجرون والأنصار ، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من [ ص: 463 ] قلد الهدي ، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي ، كما قال الله تعالى : " فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم " إلى أمصاركم الشاة تجزئ ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة ، فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأباحه للناس غير أهل مكة ، قال الله تعالى : " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم . . والرفث : الجماع ، والفسوق : المعاصي ، والجدال : المراء " رواه البخاري .

وعن أبي جمرة قال : " تمتعت فنهاني ناس ، فسألت ابن عباس ، فأمرني فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي : حج مبرور وعمرة متقبلة ، فأخبرت ابن . . [ ص: 464 ] رواه أحمد ومسلم ، وروى أبو داود أوله .

وعن مسلم أيضا - قال : " سألت ابن عباس عن متعة الحج فرخص فيها ، وكان ابن الزبير ينهى عنها ، فقال : هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص فيها ، فادخلوا عليها ، فاسألوها ، قال : فدخلنا عليها فإذا هي امرأة ضخمة عمياء ، فقالت : قد رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها " رواه مسلم .

وعن صفية بنت شيبة عن أسماء قالت : " خرجنا محرمين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان معه هدي فليقم على إحرامه ، ومن لم يكن معه هدي فليحلل ، فلم يكن معي هدي ، فحللت ، وكان مع الزبير هدي فلم يحل ، قالت : فلبست ثيابي ، ثم خرجت إلى الزبير ، فقال : قومي عني ، فقلت : أتخشى أن أثبت عليك " ، وفي رواية : " قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج " [ ص: 465 ] رواه مسلم .

وعن مجاهد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقول : لبيك اللهم لبيك بالحج ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلناها عمرة " . رواه البخاري .

وعن جابر بن عبد الله قال : " أهللنا بالحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا ، وضاقت به صدورنا ، فقال : يا أيها الناس ، أحلوا ، فلولا الهدي الذي معي لفعلت كما فعلتم ، قال : فأحللنا حتى وطئنا النساء ، وفعلنا ما يفعل الحلال ، حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر ، أهللنا بالحج [ قال : أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بالحج ] ، وليس مع أحد منهم هدي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلحة ، وقدم علي من اليمن ومعه هدي ، فقال : أهللت بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجعلوها عمرة ، ويطوفوا ، ويقصروا ، ويحلوا ، إلا من كان معه الهدي قالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت ، وحاضت عائشة ، فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت ، فلما طهرت طافت بالبيت ، قالت : يا رسول الله تنطلقون بحجة وعمرة ، وأنطلق بحج ، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم ، [ ص: 466 ] فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة ، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة وهو يرميها ، فقال : ألكم هذه خاصة يا رسول الله ، قال : لا ، بل للأبد " ، وفي رواية عن ابن شهاب قال : " قدمت مكة متمتعا بعمرة ، فدخلنا قبل التروية بثلاثة أيام ، فقال لي ناس من أهل مكة : تصير الأن حجتك حجة مكية ، فدخلت على عطاء أستفتيه فقال : حدثني جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - : " أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وقصروا ثم أقيموا حلالا ، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة ، فقالوا : كيف نجعلها متعة ، وقد سمينا الحج ؟ فقال : افعلوا ما أمرتكم ، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ، ففعلوا " متفق عليه . وهذان .... البخاري .

[ ص: 467 ] ....عباس ، فقال : سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : أقم عندي فأجعل لك سهما من مالي ، فقال شعبة : فقلت : لم ؟ فقال : للرؤيا التي رأيت " ، وفي لفظ : " سألت ابن عباس عن المتعة ، فأمرني بها ، وسألته عن الهدي ، فقال : فيها جزور ، أو بقرة ، أو شرك في دم ، قال : وكأن ناسا كرهوها ، فنمت ، فرأيت في المنام كأن المنادي ينادي ، حج مبرور ومتعة متقبلة ، فأتيت ابن عباس فحدثته ، فقال : الله أكبر ، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - " . متفق عليه .

وعن مسلم القري سمع ابن عباس يقول : " أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمرة ، وأهل أصحابه بحج ، فلم يحل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم ، وكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل ، [ ص: 468 ] ولمسلم ، فقلنا : " لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا ، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني ، قال جابر بيده : كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها ، قال : فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا ، فقال : قد علمتم أني أتقاكم لله ، وأصدقكم وأبركم ، ولولا هديي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، فحلوا ، فحللنا ، وسمعنا وأطعنا " ولمسلم قال : " أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى ، قال : فأهللنا من الأبطح ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم : يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأبد " .

ورواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح ، وفيه : " ثم قام سراقة بن مالك [ ص: 469 ] فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أريت متمتعا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بل هي أبد " .

وعن أبي جعفر محمد بن علي ، عن جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال جابر : " لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، وذكر طوافه وسعيه ، قال : حتى إذا كان آخر طواف على المروة ، قال : لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة [ فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة ] فقام سراقة بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا ، بل لأبد أبد ، وقدم علي من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة ممن حل ، ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : أبي أمرني بهذا ، قال : وكان علي - عليه السلام - يقول بالعراق : [ ص: 470 ] فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشا على فاطمة للذي صنعت ، مستفتيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال : صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ قال : قلت : اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ، قال : فإن معي الهدي فلا تحل ، قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن ، والذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة ، قال : فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج . رواه مسلم وغيره .

ورواه سعيد ، عن عتاب بن بشير ، ثنا خصيف ، عن عطاء ، عن جابر قال : " لما قدمنا مكة سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأي شيء أهللتم ؟ فقال بعضنا : بالحج ، وقال بعضنا : بالعمرة ، وقال بعضنا : بالذي أهللت به يا رسول الله ، فقال : أحلوا أجمعين إلا إنسان معه الهدي قلده ، ولو استقبلت من أمري ما [ ص: 471 ] استدبرت ما سقت الهدي حتى أكون معكم حلالا ، فرأى أن الفضل في الإحلال ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم : ألعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : لأبد الآبدين " .

وعن أبي نضرة قال : " كان ابن عباس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله ، فقال : على يدي دار الحديث ، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم عمر قال : إن الله كان يحل لرسوله ما شاء ، وإن القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحج والعمرة لله ، كما أمركم الله ، واتقوا نكاح هذه النساء ، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة " ، وفي رواية : " وافصلوا حجكم من عمرتكم ، فإنه أتم لحجكم ، وأتم لعمرتكم " . رواه مسلم ، وفي رواية صحيحة لأحمد : قال جابر : " تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ، فلما ولي عمر خطب الناس ، فقال : إن القرآن هو القرآن ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الرسول ، وإنها كانتا متعتان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحداهما متعة الحج ، والأخرى متعة النساء " .

[ ص: 472 ] وعن سعيد قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج صراخا ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي ، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى ، أهللنا بالحج " [ رواه أحمد ومسلم .

وعن البراء بن عازب قال : " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال : فأحرمنا بالحج ] فلما قدمنا مكة قال : اجعلوا حجكم عمرة ، قال الناس : قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة قال : انظروا ما آمركم به فافعلوا ، فردوا عليه القول ، فغضب ، ثم انطلق حتى دخل على عائشة ، فرأت الغضب في وجهه فقالت : من أغضبك أغضبه الله ؟ فقال : وما لي لا أغضب ، وأنا آمر بالأمر فلا [ ص: 473 ] أتبع " رواه أحمد : ثنا أبو بكر بن عياش ، ثنا أبو إسحاق ، عن البراء وابن ماجه .

وقال أبو داود : ثنا يحيى بن معين ، ثنا حجاج ، ثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : " لما قدم علي من اليمن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وجدت فاطمة قد لبست ثيابا صبغيا ، وقد نضحت الظهر للبيت [ ص: 474 ] بنضوح ، فقالت : ما لك ! فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه فأحلوا ، قلت لها : إني أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : كيف صنعت ؟ قال : قلت : أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فإني سقت الهدي وقرنت ، قال : فقال لي : انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين ، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين ، وأمسك من كل بدنة منها بضعة " . رواه أبو داود بإسناد صحيح .

وعن أنس بن مالك قال : " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله ، وسبح وكبر ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما ، فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج ، وقال : ونحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدنات بيده قياما ، وذبح بالمدينة كبشين أملحين " رواه البخاري .

وعن الربيع بن سبرة عن أبيه قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 475 ] حتى إذا كان بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله ، اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ، فقال : إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة ، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي " رواه أبو داود .

وعن سراقة بن مالك بن جعشم قال : " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمتعنا معه ، فقلنا : ألنا خاصة أم للأبد ؟ قال : بل للأبد " رواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وفي رواية أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ، ألعامنا أو للأبد ؟ قال : بل للأبد ، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " رواه سعيد ، وفي لفظ : " أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 476 ] العمرة ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : بل للأبد ، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " . رواه الدارقطني ، وقال : كلهم ثقات .

وعن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى قال : " بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فقال : بم أهللت ؟ قلت : أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هل معك من هدي ؟ قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت [ ص: 477 ] وبالصفا والمروة ، ثم أمرني فأحللت ، فأتيت امرأة من قومي فمشطتني ، أو غسلت رأسي ، فقدم عمر فقال : إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمرنا بالتمام ، قال الله تعالى : " وأتموا الحج والعمرة لله " ، وإن نأخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يحل حتى نحر الهدي " . متفق عليه وهذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منيخ بالبطحاء ، فقال : بم أهللت ؟ قال : قلت : أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هل سقت من هدي ؟ قلت : لا ، قال : فطف بالبيت وبالصفا والمروة ، [ ثم حل ، قال : فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ] ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني ، وغسلت رأسي ، فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر ، فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل ، فقال : إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك ، فقلت : أيها الناس ، من كنا أفتيناه بشيء فليتئد ، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا ، فلما قدم قلت : يا أمير المؤمنين ، ما هذا الذي أحدث في شأن النسك ؟ فقال : إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال : " وأتموا الحج والعمرة لله " وأن نأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى نحر الهدي " .

وعن إبراهيم بن أبي موسى عن أبيه : " أنه كان يفتي بالمتعة ، فقال رجل : [ ص: 478 ] رويدك ببعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك ، فلقيه بعد فسأله ، فقال عمر : قد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم " . رواه أحمد ومسلم ، وفي رواية لأحمد عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، أن عمر قال : " هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني المتعة - ولكن أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ، ثم يروحوا بهن حجاجا " .

[ ص: 479 ] وعن غنيم بن قيس المازني قال : " سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج ، قال : فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش - يعني بيوت مكة ، يعني معاوية " رواه مسلم . ويشبه - والله أعلم - أن يكون سعد إنما عنى العمرة في أشهر الحج في الجملة ، وعنى عمرة القضية لأن معاوية كان مسلما في حجة الوداع ولم يكن بمكة يومئذ كافر .

وعن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب : " أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان ، [ ص: 480 ] وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال الضحاك : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ، قال الضحاك : فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنعناها معه " رواه مالك ، والنسائي ، والترمذي وقال : حديث صحيح .

وعن مطرف ، عن عمران بن حصين قال : " نزلت آية المتعة في كتاب الله ، ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها حتى مات " متفق عليه . ولمسلم : " تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمتعنا معه " ، وله : " نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - ولم ينه عنها حتى مات " . وفي رواية لأحمد ومسلم عن مطرف قال : قال لي عمران بن [ ص: 481 ] حصين : أحدثك بحديث عسى الله أن ينفعك به : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين حجة وعمرة ، ثم لم ينه عنه حتى مات ، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه قال فيها رجل برأيه ما شاء ، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت ، ثم تركت الكي فعاد " . وفي رواية صحيحة لأحمد : " اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعمر طائفة من أهله في العشر ، فلم ينزل آية تنسخ ذلك ، ولم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مضى لوجهه ارتأى كل امرئ بعد ما شاء أن يرتئي " .

وعن عبد الله بن شقيق : " أن عليا كان يأمر بالمتعة ، وعثمان ينهى عنها ، فقال عثمان كلمة ، فقال علي : لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عثمان : أجل ولكنا كنا خائفين " رواه أحمد ومسلم .

وعن علي بن الحسين ، عن مروان بن الحكم قال : " شهدت عثمان وعليا [ ص: 482 ] بين مكة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلما رأى ذلك علي أهل بهما : لبيك بعمرة وحجة ، فقال عثمان : تراني أنهى الناس وأنت تفعله ، قال : ما كنت لأدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد " رواه أحمد والبخاري ، وفي لفظ : " ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي بهما جميعا " رواه سعيد في سننه بإسناد صحيح .

وعن سعيد بن المسيب قال : " اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة ، فقال علي : ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا " متفق عليه ، وهذا لفظ البخاري ولمسلم : " اجتمع علي وعثمان بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة ، فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنهى عنه . فقال عثمان : دعنا منك ، فقال : إني لا أستطيع أن أدعك ، فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعا " وفي رواية لأحمد عن سعيد قال : " خرج عثمان حاجا حتى إذا كان ببعض الطريق ، قيل لعلي - رضي الله عنه - : إنه قد نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال علي لأصحابه : إذا ارتحل فارتحلوا ، فأهل [ ص: 483 ] علي وأصحابه بعمرة ، فلم يكلم عثمان في ذلك ، فقال له علي : ألم أخبر أنك نهيت عن التمتع ؟ قال : فقال : بلى ، قال : فلم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمتع ؟ قال : بلى " .

وعن عبد الله بن الزبير قال : " والله إنا لمع عثمان بالجحفة ، ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان - وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج - : إن أتم الحج والعمرة ألا يكونا في أشهر الحج ، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ، فإن الله قد وسع في الخير ، وعلي بن أبي طالب ببطن الوادي يعلف بعيرا له ، فبلغه الذي قال عثمان ، فأقبل حتى وقف على عثمان فقال : أعمدت إلى سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورخصة رخص الله بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها ، وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار ؟! ثم أهل بحجة وعمرة معا ، فأقبل عثمان على الناس فقال : وهل نهيت عنها ، إني لم أنه عنها ، إنما كان رأيا أشرت به ، فمن شاء أخذ به ، ومن شاء تركه " رواه أحمد .

ومعنى قول عثمان - رضي الله عنه - : إنا كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنا كنا مشغولين بالجهاد عن إنشاء سفرة أخرى للعمرة لكون أكثر الأرض [ ص: 484 ] كانوا كفارا ، فأما اليوم : فالناس قد أمنوا ، فإفراد كل واحد من النسكين بسفرة هو الأفضل .

وقد روى سعيد عن سلام بن عمرو قال : " شهدت عليا وعثمان وهما يفتيان فتيا شتى ؛ علي يأمر بالمتعة ، وعثمان ينهى عنها ، فقال عثمان لعلي : هل أنت منته ؟ ثم قال : يا أيها الناس إن الله عز وجل قد أمنكم ، ألا إن الحج التام من أهليكم ، والعمرة التامة من أهليكم " ومثل هذا عن إبراهيم قال : " إنما كانت المتعة إذ كان الناس يشغلهم الجهاد عن الحج ، فأما اليوم فقد أمن الله الساحة ونفى العدو فجردوا " رواه سعيد .

وعن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي العقيق يقول : أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة " رواه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، وابن ماجه . وفي لفظ للبخاري : " وقل : عمرة وحجة " قال الوليد بن مسلم : يعني ذا الحليفة .

[ ص: 485 ] وهذا يحتمل أن يكون هو القران كما فسره بعض الناس ، ويحتمل أن يكون هو التمتع ، كما جاء : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " يعني بها المتعة .

وكذلك أم سلمة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرت الرجل أن يعتمر قبل أن يحج ، واحتجت أم سلمة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج " . فعلم أن المعتمر في أشهر الحج : قد أهل بعمرة في حجة ، وفي حديث سبرة بن معبد : " أن الله قد أدخل عليكم في حجكم عمرة ، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل ، إلا من كان معه هدي " وهذا لأن المتمتع إنما يريد الحج الأكبر ، وله يسافر ، وإليه يقصد ، ويدخل في ضمن حجه عمرة ؛ ولهذا قال : " عمرة في حجة " . فعلم أنها عمرة تفعل في أثناء حجة ، ولو كان ذلك القران لقال : حجة فيها عمرة ؛ لأنه إنما يحرم بالحج ، والعمرة تدخل بالنية فقط ، وقوله : " عمرة وحجة " لا تخالف ذلك ؛ لأن المتمتع بالعمرة إلى الحج أقرب إلى أن يكون أتى بعمرة وحجة من القارن الذي لم يزد على عمل الحاج .

فهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخبروا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالمتعة ، وأنهم تمتعوا معه ، وأنها كانت آخر الأمرين ، وأخبروا - أيضا - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع ، لكن هل كانت متعة عمرة أو متعة قران ؟ هذا هو الذي وقع التردد فيه .

وكذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد ؛ هل الأفضل في حق من ساق الهدي أن يتمتع بعمرة ، أو أن يقرن بينهما ؟ فروي عنه أن القران أفضل ؛ بناء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا .

[ ص: 486 ] وذكر ابن عبد البر عنه أنه قال : " لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، والتمتع أحب إلي ، واحتج لاختياره التمتع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " .

ويوضح هذا : أنه قد روى أنه قرن مفسرا ، فروى بكر بن عبد الله المزني ، عن أنس قال : " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة جميعا ، قال بكر : فحدثت بذلك ابن عمر ، فقال : لبى بالحج وحده . فلقيت أنسا فحدثته ، فقال أنس : ما تعدونا إلا صبيانا ! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لبيك عمرة وحجا " متفق عليه . وهذا إخبار عن لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 487 ] وقد تقدم عن أنس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء ، حمد الله وسبح وكبر ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما " رواه البخاري .

وعن يحيى بن أبي إسحاق ، وعبد العزيز بن صهيب ، وحميد ، أنهم سمعوا أنسا قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بهما : لبيك عمرة وحجا ، لبيك عمرة وحجا " رواه مسلم .

وعن أبي قدامة قال : " قلت لأنس بن مالك : بأي شيء كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ؟ فقال : سمعته يقول مرارا : بعمرة وحجة بعمرة وحجة " رواه أحمد ، وقد تقدم عن البراء : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي : أو [ ص: 488 ] قرنت ؟ " وهذا - أيضا - صريح لا يعارضه ظاهر ، وقد تقدم عن علي وعثمان أنهما أخبرا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع ، وكذلك عن عمران بن حصين ، وفسروا التمتع بأنه جمع بين الحج والعمرة .

وعن سراقة بن مالك قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، قال : وقرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع " رواه أحمد .

وعن الصبي بن معبد قال : " كنت رجلا نصرانيا ، فأسلمت ، فأهللت بالحج والعمرة ، فسمعني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان ، وأنا أهل بهما [ ص: 489 ] جميعا بالقادسية ، فقالا : لهذا أضل من بعيره ، فكأنما حمل علي بكلمتهما جبل ، فقدمت على عمر بن الخطاب ، فأخبرته ، فأقبل عليهما فلامهما ، ثم أقبل علي فقال : هديت لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - " رواه الخمسة إلا الترمذي ، قال الدارقطني : هو حديث صحيح .

وعن ابن عباس قال : " أخبرني أبو طلحة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الحج والعمرة " رواه أحمد وابن ماجه ، وفيه حجاج بن أرطأة .

[ ص: 490 ] وعن أبي قتادة قال : " إنما جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الحج والعمرة ؛ لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها " رواه الدارقطني .

وكل من روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع ، فإنه لا يخالف هذا ، فإن الروايات قد اتفقت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل من إحرامه لأجل الهدي الذي ساقه ؛ فعلم أنه ليس المقصود بذلك أنه حل من إحرامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية