صفحة جزء
وأما قوله : " وأتموا الحج والعمرة لله " فإن المتمتع متم للحج والعمرة سواء كان قد أهل أولا بالحج أو بالعمرة ؛ وذلك لأنه إذا أهل بالحج أولا ، فإنما يفسخه إلى عمرة متمتع بها إلى الحج ، وإنما يجوز له فسخه إذا قصد التمتع ، فيكون قد قصد الحج وحده ، فيكون مدخلا للعمرة في حجه ، وفاعلا للعمرة والحج ، وهذا أكثر مما كان دخل فيه ، ولو أراد أن يخرج من الحج بعمرة غير متمتع بها لم يجز ذلك .

وأما حديث الحارث بن بلال عن إسماعيل : قال [ ص: 516 ] عبد الله : قيل لأبي : حديث بلال بن الحارث ؟ قال : لا أقول به ولا نعرف هذا الرجل ، ولم يروه إلا الدراوردي ، وقال أيضا : حديث بلال عندي ليس يثبت ؛ لأن الأحاديث التي تروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اجعلوا حجكم عمرة ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي " فحل الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال - أيضا - : هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ، وإنما يروى عن أبي ذر إنما كانت المتعة لنا خاصة - يعني متعة الحج .

وقال - أيضا - في رواية الفضل وابن هانئ : من الحارث بن بلال ومن روى عنه أبوه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فلا .

[ ص: 517 ] وقال - في رواية الميموني - : أرأيت لو عرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أين يقع بلال بن الحارث منهم ؟ !

وفي رواية أبي داود : ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة ، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، فقد ضعف أحمد هذا الحديث ؛ لجهل الراوي ، وأنه لا يعرف الحارث بن بلال ، لا سيما وقد انفرد به الدراوردي عن ربيعة ، ولم يروه عنه مثل مالك ونحوه .

وتخصيصهم بهذا الحديث ترك للعمل بتلك الأحاديث المستفيضة ، وهو مثل النسخ لها . ومثل هذا الإسناد لا يبطل حكم الأحاديث .

[ ص: 518 ] ثم بين أحمد : أنه يخالف تلك الأحاديث ويعارضها ، وهو حديث شاذ ؛ لأن الحديث الشاذ هو الذي يتضمن خلاف ما تضمنته الأحاديث المشهورة .

فلو كان راويه معروفا لوجب تقديمها عليه ؛ لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوا حجكم عمرة ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي " فعم ولم يذكر أن هذا مختص بهم ، ولو كان ذلك مخصوصا بهم لوجب بيانه ولم يؤخر ذلك حتى سأله بلال بن الحارث . وقد بين لهم في الحديث الصحيح أن هذا ليس لهم خاصة ، وإنما هو للناس عامة على ما ذكرناه ، فدلالة تلك الأحاديث على عموم حكم الفسخ دليل على ضعف هذا الحديث لو كان راويه معروفا بالعدل ، ودليل على أن هذا الحديث ليس بمضبوط ولا محفوظ . ولو كان هذا [ ص: 519 ] صحيحا لكان له من الظهور والشياع ما لا خفاء به ، ولكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بينه بيانا عاما ، وذلك لأن ما ثبت في حق بعض الأمة من الأحكام ثبت في حق الجميع ، لا سيما في مثل ذلك المشهد العظيم الذي يقول فيه : " لتأخذوا عني مناسككم " فلو كانوا مخصوصين بذلك الحكم لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك ابتداء ، كما بين حكم الأضحية لما سأله أبو بردة بن نيار عن الأضحية بالجذع ، فقال : " يجزئ عنك ولا يجزئ عن أحد بعدك " فلو كان الفسخ خاصا لهم لقال : " إذا طفتم بالبيت وبين الصفا والمروة فحلوا ، وليس ذلك لغيركم " ولم يؤخر بيان ذلك إلى أن يسأله بلال بن الحارث ؛ فإنه بتقدير أن لا يسأله بلال كان التلبيس واقعا . وهذا بخلاف قوله لسراقة لما سأله : " أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل لأبد الأبد " . فإن هذا الحكم كان معلوما بنفس فعله ، وإنما أجاب السائل توكيدا ، ولما كانت هذه الأحاديث مقتضية لعموم الحكم وثبوته في حق الأمة عارض أحمد بينها وبين حديث بلال بن الحارث ، وحكم بشذوذه لما انفرد بما يخالف الأحاديث المشاهير ، والذي يبين ذلك أن الصحابة الذين حدثوا بتلك إنما ذكروها لتعليم السنة ، وبيانها ، واتباعها ، والأخذ بها ، لم يكن قصدهم مجرد القصص . ولو كان الحكم مخصوصا بهم لم يجز أن يرووها رواية مرسلة حتى يبينوا اختصاصهم بها ، فكيف إذا ذكروها لتعليم السنة ؟ ! وهذا دليل على أنهم علموا أن هذه السنة ماضية فيهم وفيمن بعدهم ، فلا يرد هذا بحديث من لم يخبر قوة ضبطه وتيقظه ، [ ص: 520 ] ويدفع هذه السنن المشهورة المتواترة براوية غير معروف .

وقد تأول بعض أصحابنا ذلك : على أن المراد به هو لنا خاصة من بين من ساق الهدي ؛ لأن من ساق الهدي لم يكن يجوز له الفسخ ، إلا لنفر مخصوص .

وهذا تأويل ساقط ؛ لأن سائق الهدي لم يحل أحد منهم ، ولم يكن يجوز لهم ذلك ، ولكن يشبه - والله أعلم - إن كان لهذا الحديث أصل وهو محفوظ ولم ينقلب على رواية النفي بالإثبات ، فإن غيره ممن هو أحفظ منه بين أنه ليس لنا خاصة ، وهو يقول : " لنا خاصة " فإن كان قد حفظ ذلك فمعناه : أن الفسخ كان واجبا عليهم متحتما لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم به ، وتغيظ عليهم حيث لم يفعلوه وغيرهم من الناس وإن جاز له الفسخ لكنه لا يجب عليه ، ويكون سبب وجوبه عليهم أنه قال أولا : " من شاء منكم جعلها عمرة " وندبهم إلى ذلك فرأى أناسا قد كرهوا ذلك ، وامتعضوا منه ، واستهجنوه ؛ لأنهم لم يكونوا يعهدون الحل قبل عرفة في أشهر الحج ، فعزم عليهم الأمر حسما لمادة الشيطان ، وإزالة لهذه الشبهة ، كما أمرهم أولا بالفطر في السفر أمر رخصة ، [ ص: 521 ] ثم لما دنوا من العدو أمرهم به أمر عزيمة ، وكما أمرهم بالإحلال في عمرة الحديبية أمر عزيمة لما رآهم قد كرهوا الصلح ، ومعلوم أنه لو لم يصالحهم ، ومضى في عمرته لكان جائزا . على أن بلالا لم يبين من يعود الضمير إليه في قوله : لنا، فيجوز أن يعود الضمير إلى ذلك الوفد كما تقدم ، ويجوز أن يكون بلال ممن لم يسق الهدي ، فقال : هو لنا : من لا هدي معه خاصة أم للناس عامة ، فقال : بل لنا خاصة .

وأما قولهم : فهلا وجب الفسخ على كل حاج ، وصار كل من طاف بالبيت حلالا ، سواء قصد التحلل ، أو لم يقصد ، كما يروى عن ابن عباس ، وامتنع الإفراد والقران لكونهما مفسوخين .

قلنا : لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده حجوا مفردين ، [ وقارنين كما تقدم ذكره عن أبي بكر وعمر وعثمان ] وابن الزبير وغيرهم . فعلم أنهم لم يفهموا وجوب التمتع مطلقا .

وأما ما ذكر عن أبي ذر وغيره من الصحابة في أنهم كانوا مخصوصين بالمتعة - فقد عارض ذلك أبو موسى ، وابن عباس ، وبنو هاشم ، وهم أهل [ ص: 522 ] بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلم الناس بسنته ، وقول المكيين من الفقهاء وهم أعلم أهل الأمصار كانوا - بالمناسك . قال مجاهد : " قدم علينا ابن عمر ، وابن عباس - رضي الله عنهما - متمتعين قال : وقال لي مجاهد : لو خرجت من بلدك الذي تحج منه أربعين عاما ما قدمت إلا متمتعا ، هو أحدث عهد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي فارق الناس عليه ، ولا ينبغي أن يرغب عن ما ثبت عن أهل البيت - رضوان الله عليهم - لاتباع بعض أهل الأهواء لهم في ذلك .

[ ص: 523 ] قال سلمة بن شبيب : قلت لأحمد : قويت قلوب الروافض حين أفتيت أهل خرسان بمتعة الحج ، فقال : يا سلمة كنت توصف بالحمق ، فكنت أدفع عنك ، وأراك كما قالوا .

وقال ابن بطة : سمعت أبا بكر بن أيوب يقول : سمعت إبراهيم الحربي يقول : - وسئل عن فسخ الحج فقال - : " قال سلمة بن شبيب لأحمد : كل شيء منك حسن غير خلة واحدة ، قال : وما هي ؟ قال : تقول بفسخ الحج ، قال أحمد : كنت أرى لك عقلا ، عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا أتركها لقولك ؟!

[ ص: 524 ] وقال أبو الحسن اللباني : سمعت إبراهيم الحربي ، وذكر له أحمد - رحمه الله - فقال : ما رأيت أنا أحدا أشد اتباعا للحديث ، والآثار منه ، لم يكن يزاله عقل . ثم قال : جاء سلمة بن شبيب إلى أحمد يوما فقال : يا أبا عبد الله ، تفتي بحج وعمرة ؟ فقال أحمد : ما ظننت أنك أحمق إلى اليوم ، ثمانية عشر حديثا أروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أفتي به ، فلم كتبت الحديث ؟ ! قال : وما رأيت أحمد - رحمه الله - قط إلا وهو يفتي به .

وأما نهي عمر وعثمان ، وغيرهما عن المتعة ، وحمل ذلك على الفسخ أو على كونها مرجوحة : فاعلم أن عمر وعثمان وغيرهما نهوا عن العمرة في أشهر الحج مع الحج مطلقا ، وأن نهيهم له موضع غير الذي ذكرناه .

أما الأول : فهو بين في الأحاديث ، قال عمران بن حصين : " جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حجة وعمرة ، ثم لم ينه عنها حتى مات ، ولم ينزل قرآن يحرمها ، قال رجل برأيه ما شاء " . رواه مسلم وغيره ، وفي لفظ : " تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحم الله عمرا ، إنما ذاك رأي " ، وقد تقدم هذا الحديث ، فبين أن المتعة التي نهى عنها عمر ، أن يجمع الرجل بين حجة وعمرة ، سواء جمع بينها بإحرام واحد ، أو أحرم بالعمرة ، وفرغ منها ثم أحرم بالحج ، وكذلك عثمان " لما نهى عن المتعة فأهل علي بهما ، فقال : تسمعني أنهى الناس عن المتعة وأنت تفعلها ؟ فقال : لم أكن لأدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد " .

[ ص: 525 ] وفي حديث آخر عنه ، أنه أمر أصحابه أن يهلوا بالعمرة لما بلغه نهي عثمان .

وعن السائب بن يزيد أنه : - " استأذن عثمان بن عفان في العمرة في شوال ، فأبى أن يأذن له " . رواه سعيد .

وعن [ نبيه بن وهب : " أن عثمان سمع رجلا يهل بعمرة وحج فقال : علي بالمهل ، فضربه ، وحلقه ، قال ] نبيه : فما نبت في رأسه شعرة ، وقال نبيه : إن عمر بن الخطاب قال : إن الناس يتمتعون بالعمرة مع الحج ، ثم أمر نوفا فأذن في الناس : إن الصلاة جامعة . فحمد الله عز وجل ، وأثنى عليه ، ثم قال : أقد مللتم الحج دفره ؟ أقد مللتم شعثه ؟ أقد مللتم وسخه ؟ ! والله لئن مللتم ليأتين الله عز وجل بقوم لا يملونه ولا يستعجلونه قبل محله ، والله لو أذنا لكم في هذا لأخذتم بخلاخيلهن في الأراك - يريد أراك عرفة - ثم رجعتم مهلين بالحج .

وأما الثاني : فقد صح عن عمر وعثمان وغيرهما المتعة قولا وفعلا ؛ فهذا عمر يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل المتعة هو وأصحابه ، ويقول للصبي بن معبد - لما أهل جميعا - : هديت سنة نبيك . ويروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 526 ] أنه قال : " أتاني الليلة آت من ربي في هذا الوادي المبارك ، فقال : قل عمرة في حجة " .

وعن طاوس عن ابن عباس قال : " هذا الذي تزعمون أنه نهى عن المتعة - يعني عمر - سمعته يقول : لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت " ، وقال له أبي بن كعب ، وأبو موسى الأشعري : " ألا تبين للناس أمر متعتهم هذه ؟ فقال : وهل بقي أحد لا يعلمها ؟ ! " .

وقال ابن عباس : " وما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة ، إلا رجل اعتمر في وسط السنة " . وفي رواية عن ابن عباس ، عن عمر قال : " لو حججت مرة واحدة ثم حججت ، لم أحج إلا بمتعة " . رواهما سعيد ، وفي لفظ لأبي [ ص: 527 ] عبيد : " لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت " . ورواه أبو حفص عن طاوس أن عمر قال : " لو اعتمرت وسط السنة لتمتعت ، ولو حججت خمسين حجة لتمتعت " ، وروى الأثرم عن عمر نحو الحديث الأول ، فقال عمر : " وهل بقي أحد إلا علمها ؟ أما أنا فأفعلها " .

وعن نافع بن جبير عن أبيه قال : " ما حج عمر قط حتى توفاه الله إلا تمتع فيها " .

[ ص: 528 ] وإنما وجه ما فعلوه أن عمر رأى الناس قد أخذوا بالمتعة ، فلم يكونوا يزورون الكعبة إلا مرة في السنة في أشهر الحج ، ويجعلون تلك السفرة للحج والعمرة ، فكره أن يبقى البيت مهجورا عامة السنة ، وأحب أن يعتمر في سائر شهور السنة ليبقى البيت معمورا مزورا كل وقت بعمرة ينشأ لها سفر مفرد ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، حيث اعتمر قبل الحجة ثلاث عمر مفردات .

وعلم أن أتم الحج والعمرة أن ينشأ لهما سفر من الوطن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ير لتحصيل هذا الفضل والكمال لرغبته طريقا إلا أن ينهاهم عن الاعتمار مع الحج ، وإن كان جائزا ، فقد ينهى السلطان بعض رعيته عن أشياء من المباحات ، والمستحبات لتحصيل ما هو أفضل منها من غير أن يصير الحلال حراما .

قال يوسف بن ماهك : " إنما نهى عمر - رضي الله عنه - عن متعة الحج من أجل أهل البلد ؛ ليكون موسمين في عام ، فيصيب أهل مكة من منفعتهما " .

وقال عروة بن الزبير : " إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج ؛ إرادة ألا يعطل البيت في غير أشهر الحج " . رواهما سعيد .

[ ص: 529 ] وأيضا : فخاف إذا تمتعوا بالعمرة إلى الحج أن يبقوا حلالا حتى يقفوا بعرفة محلين ، ثم يرجعوا محرمين ، كما بين ذلك في حديث أبي موسى وغيره حيث قال : " كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك - يعني أراك عرفة - ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم " .

ونحن نذهب إلى ذلك ؛ فإن الرجل إذا أنشأ للعمرة سفرا من مصره كان أفضل من عمرة التمتع .

[ ص: 530 ] فعن ابن عمر ، أن عمر قال : " افصلوا بين حجكم وعمرتكم ؛ فإنه أتم لحج أحدكم أن يعتمر في غير أشهر الحج ، وأتم لعمرته " رواه مالك .

وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم قال : " سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها ، فقيل له : إنك تخالف أباك ، فقال : إن أبي لم يقل الذي تقولون : إنما قال : أفردوا العمرة من الحج . أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي ، وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج ، فجعلتموها أنتم حراما ، وعاقبتم الناس عليها ، وقد أحلها الله عز وجل ، وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أكثروا عليه قال : أوكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر ؟! " .

وعن أبي يعفور قال : " كنت عند ابن عمر ، فجاءه رجل فسأله عن [ ص: 531 ] العمرة في أشهر الحج ، فقال : " هي في غير أشهر الحج أحب إلي " .

وعن محمد بن سيرين قال : " ما أحد من أهل العلم يشك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج " .

وأما الخلاف فيمن أراد أن يجمع بينهما في سفرة واحدة ، إما لعجزه عن سفرة أخرى ؛ أو لأنه مشغول عن سفرة أخرى بما هو أهم من الحج من جهاد ونحوه ، أو لأنه لا يمكنه قصد مكة إلا في أيام الموسم لعدم القوافل ، أو خوف الطريق ، ونحو ذلك : فإن اعتماره قبل الحج أفضل من أن يعتمر من التنعيم في بقية ذي الحجة ؛ لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم فعلوا كذلك ، ولم يعتمر أحد منهم بعد الحجة في تلك السفرة إلا عائشة خاصة ، ولم يقم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين بعد ليلة الحصبة ولا يوما واحدا ، بل قضى حجه ورجع قافلا إلى المدينة ، وكذلك عمر كان . . . وكانوا ينهون عن العمرة بعد الحج في ذلك العام كما ينهون عنها قبله .

[ ص: 532 ] قال أبو بشر : " حججت أنا وصاحب لي ، فلما كان ليلة الصدر ، قال صاحبي : إني لا أقدر على هذا المكان كلما أردت ، أفأعتمر ؟ فلم أدر ما أقول له ، فانطلقنا إلى نافع بن جبير بن مطعم ، فسألناه ، فكأنه هابنا ، ثم إنه اطمأن بعد فقال : أما أمراؤكما فينهون عن ذلك ، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أعمر عائشة - رحمها الله - ليلة الصدر من التنعيم ، ثم أمره أن يخرج من الحرم من سنن وجهه الذي بدأ منه ، ثم يحرم " .

ومن فعل ذلك فعله رخصة بعد أن يستفتي ، مع علمهم أنهم لو اعتمروا قبل الحج كان أفضل . عن ابن عباس قال : " والله ما أعمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون : إذا عفا الوبر ، وبرأ الدبر ، ودخل صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر ، فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم " . رواه أبو داود .

عن صدقة بن يسار قال : سمعت ابن عمر يقول : " عمرة في العشر الأول أحب إلي من عمرة في العشرين الأواخر ، قال صدقة : فحدثت نافعا ، فقال : كان عبد الله يقول : لأن أعتمر عمرة يكون علي فيها هدي ، أو صيام أحب إلي من [ ص: 533 ] أن أعتمر عمرة ليس علي فيها هدي ولا صيام " . رواه سعيد ، ورواه مالك عنه ، قال : " والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة " .

وروى أبو عبيد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " لأن أعتمر في شوال ، أو في ذي القعدة ، أو في ذي الحجة ، في شهر يجب علي فيه الهدي [ أحب إلي من أن أعتمر في شهر لا يجب علي فيه الهدي ] " .

على أن هذا الرأي الذي قد رآه عمر وعثمان ومن بعدهما قد خالفهم فيه خلق كثير من الصحابة وأنكروا عليهم ؛ مثل علي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، وابن عباس ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي بن كعب .

فأما أن يكونوا خافوا من النهي ؛ أن يعتقد الناس ذلك مكروها ، فخالفوهم في ذلك ، أو رأوا أن ترك الناس آخذين برخصة الله أفضل وأولى .

وقد تقدم بعض ما روي في ذلك عن علي وسعد وعمران وابن عباس .

[ ص: 534 ] وعن الحسن أن عمر بن الخطاب : " أراد أن ينهى عن المتعة ، فقال له أبي بن كعب : ليس ذلك لك قد تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا عن ذلك ، قال : فأضرب عمر عن ذلك " .

وعن عمرو قال : " سمعت ابن عباس وأنا قائم على رأسه ، وسألوه عن المتعة متعة الحج ، فقيل له : إن معاوية ينهى عنها ، فقال : انظروا في كتاب الله ، فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله ، وإن لم تجدوها فقد صدق " .

وعن سعيد بن جبير قال : " سمعت ابن الزبير يعرض بابن عباس فقال : " إن هاهنا قوما أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم ، يفتون في المتعة أنه لا بأس بها ، فقال ابن عباس : أما لي فليسأل أمه ، فسألها ، فقالت : صدق ابن عباس قد كان ذلك ، فقال ابن عباس : لو شئت أن أسمي ناسا من قريش ولدوا منها لفعلت " رواهن سعيد .

وعن ابن عباس قال : " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عروة بن الزبير : نهى أبو بكر ، وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : نهى أبو بكر وعمر " . رواه أبو حفص .

التالي السابق


الخدمات العلمية