صفحة جزء
[ ص: 556 ] المسألة الثانية :

أنه يجوز أن يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحج ، ويصير قارنا ؛ لأن في حديث ابن عمر وعائشة المتقدم " وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج " متفق عليه ، إلا أن هذا يحتمل أن يكون بعد انقضاء عمل العمرة . وفي حديث علي أنه لما رأى ذلك من عثمان أهل بهما جميعا . وعن عائشة قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " وذكرت الحديث ، متفق عليه .

وعن نافع قال : " أراد ابن عمر الحج عام حجت الحرورية في عهد ابن [ ص: 557 ] الزبير ، فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال ، ونخاف أن يصدوك ، فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، إذا أصنع كما صنع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ، أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرتي ، وأهدى هديا مقلدا اشتراه بقديد ، وانطلق حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا ولم يزد على ذلك ، ولم يتحلل من شيء حرم منه حتى يوم النحر ، فحلق ونحر ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، ثم قال : كذلك صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متفق عليه .

ومعنى قوله : كذلك صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة إلا مرة قبل التعريف ، مع أنه كان قد جمع الحج إلى العمرة ، ولم يرد به أنه لم يطف بالبيت بعد النحر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد طاف بعد [ ص: 558 ] التعريف ، وقد روى ذلك ابن عمر في غير موضع هو وسائر الصحابة ، وإنما قصد نافع أنه اكتفى للقران بطواف واحد بالبيت وبين الصفا والمروة ، لم يطف طوافين ويسع سعيين .

وعن عبد الرحمن بن أبي نصر ، عن أبيه قال : " خرجت وأنا أريد الحج ، فقلت : أمر بالمدينة فألقى عليا ، فأقتدي به ، فقدمت المدينة ، فإذا علي قد خرج حاجا ، فأهللت بالحج ، ثم خرجت ، فأدركت عليا في الطريق وهو يهل بعمرة وحجة ، فقلت له : يا أبا الحسن ، إنما خرجت من الكوفة لأقتدي بك ، وقد سبقتني فأهللت بالحج ، أفأستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه ؟ [ ص: 559 ] فقال : لا ؛ إنما ذاك لو كنت أهللت بعمرة . فخرجت معه حتى قدم فطاف بالبيت ، وبين الصفا والمروة [ لعمرته ، ثم عاد فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة ] لحجته ، ثم أقام حراما إلى يوم النحر " رواه سعيد والأثرم .

ويجوز إضافة الحج إلى العمرة لكل محرم بالعمرة ، ثم إن أضافه إليها قبل الطواف وقع الطواف عن القران ، وكان قارنا ، وإن فعل ذلك بعد الشروع في الطواف لم يجز ذلك . وهذه الإفاضة تتعين على من أحرم بعمرة وضاق الوقت عن أن يعتمر قبل الحج فخشي فوته ، إما بأن تكون امرأة وقد حاضت فلم يمكنها أن تطوف بالبيت ، فتحرم بالحج وتصير قارنة ، وتترك طواف القدوم ، كما لو كانت مفردة ، أو بأن يوافي مكة يوم عرفة ، ويضيق الوقت عن إتمام العمرة والإحرام بالحج ، ونحو ذلك ، فلو أراد أن يبقى على العمرة ويفوت الحج . . . ، وكذلك من لم يخش فوات الحج وهو قارن إذا وقف قبل أن يطوف بالبيت - فهو باق على قرانه ، والوقوف بعرفة لا ينقض العمرة . هذا هو المذهب المنصوص في رواية أبي طالب فيمن قدم بعمرة ، فخشي الفوت - لم [ ص: 560 ] يطف ، وأهل بالحج وأمسك عن العمرة كما فعلت عائشة .

قيل له : إن أبا حنيفة يقول : قد رفض العمرة وصار حجا فقال : ما قال هذا أحد غير أبي حنيفة ، إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسكي عن عمرتك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، وما رفضت العمرة ، فلما قالت : أيرجع أزواجك بعمرة وحج ؟ قال لعبد الرحمن : أعمرها من التنعيم ، أراد أن يطيب نفسها ، ولم يأمرها بالقضاء .

وقال أبو طالب : سألته عن حديث عائشة لما حاضت كيف يصنع مثلها ؟ قال : لما دخلت بعمرة حاضت بعدما أهلت ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمسكي عن العمرة ، وأهلي بالحج ، فهذه شبهت بالقارن ، فتذهب فتقضي المناسك كلها ، فإذا كان يوم النحر جاءت مكة ، فطافت بالبيت ، وسعت بين الصفا والمروة ، قيل له : طواف ؟ قال : نعم ، طواف واحد يجزئ القارن ، وهذه يجزؤها طواف واحد .

وقال - في رواية الميموني - وقد ذكر له عن أبي معاوية يرويه : " انقضي عمرتك " فقال غير واحد يرويه : " أمسكي عن عمرتك " أيش معنى انقضي ؟ هو شيء ينقضه ، هو ثوب تلقيه ، وعجب من أبي معاوية ، وهذا يستقيم [ ص: 561 ] على قولنا : إنه ليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد .

فأما إذا قلنا : يلزم القارن أن يطوف ويسعى أولا للعمرة ، ثم يطوف بعد ذلك ويسعى للحج ، فإن عمرته تنقضي قبل التعريف ، ولا يبقى إلا في إحرام الحج .

فعلى هذا : إذا لم يطف للعمرة ، ولم يسع قبل الوقوف - فإن عمرته تنتقض وعليه قضاؤها ، ويكون مفردا وعليه دم جناية ، ذكر ذلك القاضي وابن عقيل وغيرهما . فعلى هذا إذا رفض العمرة لم يحل ، وإنما يكون قد فسخ العمرة إلى الحج .

وأصل ذلك حديث عائشة ، فإنها قدمت مكة - وهي متمتعة - فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تهل بالحج وتترك العمرة .

[ فمن قال بالوجه الثاني قال : أمرها برفض العمرة ] وأن تصير مفردة للحج ، ولم يوجب عليها دم قران ، بل ذبح عنها يوم النحر دم جبران ؛ لتأخير العمرة ، وأوجب عليها قضاء تلك العمرة التي رفضتها ، قالوا : لأن في حديثها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ، فقدمت مكة - وأنا حائض - فلم أطف بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : انقضي رأسك وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة ، قالت : ففعلت ، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت ، فقال : هذه مكان عمرتك ، فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر - بعد أن رجعوا من منى - لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا " وفي لفظ : [ ص: 562 ] قالت : " فحضت ، فلم أزل حائضا حتى يوم عرفة ، ولم أهل إلا بعمرة ، فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أنقض رأسي وأمتشط ، وأهل بالحج وأترك العمرة ، ففعلت ذلك حتى قضيت حجي ، فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم " وفي لفظ : " أهللت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع - فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي ، فزعمت أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت -ليلة عرفة ، قالت : يا رسول الله : هذه ليلة عرفة ، وإنما كنت تمتعت بعمرة ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك " وفي رواية : " فلما كانت ليلة الحصبة ، قلت : يا رسول الله : يرجع الناس بعمرة وحجة ، وأرجع أنا بحجة ، قال : أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ؟ قالت : قلت : لا ، قال : فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة " وفي لفظ : " حتى جئنا إلى التنعيم ، فأهللت منها بعمرة جزاء بعمرة الناس التي اعتمروها " وفي لفظ : " قلت : يا رسول الله ، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد ، قال : انتظري ، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ، ثم أتينا بمكان كذا وكذا ، ولكنها على قدر نفقتك ، أو نصبك " ، وفي لفظ : " فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي ، فقال : ما يبكيك يا هنتاه ؟ قلت : سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة ، قال : وما شأنك ؟ قلت : لا أصلي ، قال : فلا يضرك ، إنما أنت امرأة من بنات آدم ، كتب الله عليك ما كتب عليهن ، فكوني في حجك ، فعسى الله أن يرزقكيها ، قالت : فخرجنا في حجته " ، وفي لفظ : " فخرجت في حجتي حتى قدمنا منى ، فطهرت " ، وساق الحديث ، متفق عليه . وللبخاري : أنها قالت : " يا رسول الله ، اعتمرتم ولم أعتمر ؟ قال : يا عبد الرحمن اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم " ، وفي رواية له أنها قالت : " يا رسول الله : [ ص: 563 ] يرجع أصحابك بأجر حج وعمرة ، ولم أزد على الحج ؟ فقال لها : اذهبي وليردفك عبد الرحمن ، فأمر عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم " ، وفي رواية لمسلم : أنها قالت : " يا رسول الله ، أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر " .

قالوا : فهذا دليل على أنها صارت مفردة ، وأنها رفضت العمرة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " انقضي رأسك وامتشطي ، وأهلي بالحج " . ولو كان الإحرام بحاله لم يأمرها بالامتشاط ، ولقوله : " أهلي بالحج ودعي العمرة " ، " واتركي العمرة " ، وفي لفظ : " وأمسكي عن عمرتك " ، وهذا ظاهر في أنها ترفض العمرة .

وقد روى . . . . لا سيما وكان هذا ليلة عرفة أو يومها ، والناس قد خرجوا من مكة يوم التروية ، وقد تعذر فعل العمرة ، فعلم : أنه أراد ترك إحرامها .

ولقوله : " هذه مكان عمرتك " ولو كانت عمرتها بحالها : لم يقل : " هذه مكان عمرتك ، كما لم يحتج إلى ذلك سائر من قرن من أصحابه ; لأنه كانت لهم عمرة صحيحة .

وأيضا : فقولها : " أيرجع الناس بعمرة وحجة ، وأرجع أنا بحجة ؟ فقال : أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ؟ قالت : لا ، قال : فاذهبي مع أخيك فأهلي بعمرة " ، فأقرها على قولها أنها ترجع بحجة ، وسائر الناس يرجعون بحجة وعمرة ، ثم بين أن من لم يطف تلك الليالي يكون حاله كذلك ، يرجع بحجة بدون عمرة ، ثم أمرها بالقضاء - بحرف الفاء .

[ ص: 564 ] وأيضا فقوله لها لما ذكرت له الحيض - : " فعسى الله أن يرزقكيها " قالت : " فخرجنا في حجته " دليل على أنها لم تبق في عمرة وأنها ترتجي ذلك فيما بعد .

وأيضا : فلو كان الواقف بعرفة في إحرام بعمرة : لكان لا يحل حتى يطوف بالبيت ، ومعلوم أنه إذا رمى جمرة العقبة تحلل التحلل الأول .

وأيضا : فإن الوقوف من خصائص الحج ، فامتنع أن يكون في عمرة وهو واقف بعرفة ، وكذلك ما بعد الوقوف من الوقوف بمزدلفة ومنى ؛ ولهذا إذا فاته الوقوف تحلل بطواف وسعي ، ولم يقف بالمواقف الثلاثة ; لأن ذلك لا يكون في عمرة .

ووجه الأول : ما روى طاوس عن عائشة : " أنها أهلت بعمرة ، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت ، فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر - : يسعك طوافك لحجك وعمرتك ، فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم ، فاعتمرت بعد الحج " رواه أحمد ومسلم .

وعن مجاهد عن عائشة : " أنها حاضت بسرف ، فتطهرت بعرفة ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " رواه مسلم .

وعن عطاء عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك " رواه أبو داود .

[ ص: 565 ] وعن جابر قال : " دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة ثم وجدها تبكي ، وقالت : قد حضت ، وقد حل الناس ولم أحلل ، ولم أطف بالبيت ، فقال : اغتسلي ، ثم أهلي بالحج . ففعلت ، ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة ، وبالصفا والمروة ، ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك جميعا ، قالت : يا رسول الله ، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت ، قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم - وذلك ليلة الحصبة " متفق عليه . فهذا نص في أنه لا يجب عليها قضاء العمرة ، وأن الطواف الذي طافته يوم النحر بالبيت ، وبين الصفا والمروة يسعها لحجها وعمرتها ، وأنها باقية على عمرتها مقيمة عليها ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بقضاء العمرة حتى ألحت عليه ، ويؤيد ذلك أن عامة الروايات تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها ابتداء بالعمرة ، ولو كان القضاء واجبا عليها لما [ ص: 566 ] أهمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر به حتى تطلب هي ذلك ، بل كان أمرها بذلك ، بل أعملها به حين قال لها : " اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " بأن يقول : فإذا حللت ، فاقضي عمرتك ، ويؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى عنها ، وبعث إليها من هديها . فعلم أنه كان دم نسك ; لأنه لو كان دم جناية لم يجز الأكل منه .

وقوله لها : " دعي عمرتك ، وأمسكي عن عمرتك " : يعني عن إتمامها مفردة كما كانت أوجبته ، وأهلي بالحج ، فتصير العمرة في ضمن الحج ولا يبقى لها صورة ; فإنه صرح ببقاء العمرة كما ذكرناه ؛ ولهذا قال : أمسكي عنها ، والإمساك عنها لا يقتضي الخروج منها ، وإنما يقتضي ترك عملها الذي به تتم وتخرج منها ، وأما نقض الرأس . . . .

وأما القضاء : فإنما يدل على ضعف عمرة القران ، وأنها ليست بتامة . وسنتكلم - إن شاء الله - على ذلك ، وكذلك قولها : " يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية