صفحة جزء
الفصل الثاني : إذا لم يجد إزارا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه . بل يلبسه على حاله ، وإذا لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين وليس عليه أن يقطعهما ولا فدية عليه . هذا هو المذهب المنصوص عنه في عامة المواضع ، في رواية أبي طالب ومهنا وإسحاق وبكر بن محمد وعليه أصحابه .

[ ص: 22 ] وروى عنه : أن عليه أن يقطعهما ؛ قال - في رواية حنبل - الزهري عن سالم ، عن ابن عمر ، وذكر الحديث إلى قوله : " وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " وظاهره أنه أخذ به .

وقد حكى ابن أبي موسى وغيره الروايتين : إحداهما : عليه أن يقطعهما أسفل من الكعبين فإن لم يقطعهما فعليه دم ؛ لأن ذلك في حديث ابن عمر - وهو مقيد - فيقضى به على غيره من الأحاديث المطلقة فإن الحكم واحد والسبب واحد وفي مثل هذا يجب حمل المطلق على المقيد وفاقا . ثم هذه زيادة حفظها ابن عمر ولم يحفظها غيره ، وإذا كان في أحد الحديثين زيادة وجب العمل به .

ووجه الأول : ما روى ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات : من لم يجد إزارا فليلبس سراويل ، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين " وفي لفظ " السراويل لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن لم يجد النعلين " متفق عليه .

[ ص: 23 ] قال مسلم : لم يذكر أحد منهم " يخطب بعرفات " غير شعبة وحده .

وفي رواية صحيحة لأحمد قال : " من لم يجد إزارا ووجد سراويل فليلبسه ومن لم يجد نعلين ووجد خفين ، فليلبسهما " قلت : ولم يقل: ليقطعهما ؟ "قال : لا " .

وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل " رواه أحمد ومسلم .

وعن بكر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة فلما انصرف لبى ، ولبى القوم - وفي القوم رجل أعرابي عليه سراويل فلبى معهم كما لبوا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "السراويل إزار من لا إزار له ، والخفاف نعلان من لا نعل له " رواه النجاد وهو مرسل .

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : " رأيت عبد الرحمن بن عوف يطوف وعليه خفان ، قال له عمر : تطوف وعليك خفان ؟ ! فقال : لقد لبسهما من هو خير منك يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو حفص في شرحه، ورواه [ ص: 24 ] النجاد ، ولفظه : " فرأى عليه خفين وهو محرم " .

فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلبس الخفين عند عدم النعلين والسراويل عند عدم الإزار ، ولم يأمر بتغييرهما ولم يتعرض لفدية ، والناس محتاجون إلى البيان لأنه كان بعرفات وقد اجتمع عليه خلق عظيم ولا يحصيهم إلا الله يتعلمون وبه يقتدون ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

فلو وجب تغييرهما ، أو وجبت فيهما فدية : لوجب بيان ذلك لا سيما ومن جهل جواز لبس الإزار والخفين فهو يوجب الفدية أو التغيير وأجهل ، ألا ترى أن الله سبحانه ، ورسوله حيث أباح شيئا لعذر : فإنه يذكر الفدية كقوله ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة : " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة أو انسك شاة " .

وأيضا : فإن اللام في السراويل والخف لتعريف ما هو معهود ومعروف عند المخاطبين وذلك هو السراويل الصحيح والخف الصحيح فيجب أن يكون هو مقصود المتكلم ، وأن يحمل كلامه عليه .

وأيضا : فإن المفتوق والمقطوع لا يسمى سراويلا وخفا عند الإطلاق ؛ ولهذا لا ينصرف الخطاب إليه في لسان الشارع كقوله " أمرنا أن لا ننزع خفافنا " ، [ ص: 25 ] وقوله : " امسحوا على الخفين والخمار " وغير ذلك، ولا في خطاب الناس مثل الوكالات والأيمان وغير ذلك من أنواع الخطاب . والنبي - صلى الله عليه وسلم - : أمر بلبس الخفين والسراويل فعلم أنه أراد ما يسمى خفا وسراويل عند الإطلاق .

وأيضا : فإنه وإن سمى خفا وسراويل فإنه ذكره باللام الذي تقتضي تعريف الحقيقة ، أو بلفظ التنكير الذي يقتضي مجرد الحقيقة ، فيقتضي ذلك أن يجوز مسمى الخف والسراويل على أي حال كان كسائر أسماء الأجناس .

وأيضا : فإن وجود المعبر عن هيئة الخفاف والسراويلات نادر جدا لا يكون إلا بقصد ، واللفظ العام المطلق لا يجوز أن يحمل على ما يندر وجوده من أفراد الحقيقة ، فكيف ما يندر وجوده من مجازاته ؟ ! .

وأيضا : فإنه لو افتقر ذلك إلى تغيير أو وجبت فيه فدية : لوجب أن يبين مقدار التغيير الذي يبيح لبسه ، أو مقدار الفدية الواجبة ، فإن مثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف .

وأيضا فقد رأى على الأعرابي سراويل وأقره على ذلك وبين أن السراويل بمنزلة الإزار عند عدمه ، والخف بمنزلة النعل عند عدمه ، ومعلوم أن الأزر والنعل لا فدية فيهما .

وأيضا : فإنه إنما جوز لبسهما عند عدم الأصل ، فلو افتقر ذلك إلى تغيير أو وجبت فدية : لاستوى حكم وجود الأصل وعدمه في عامة المواضع . وبيان [ ص: 26 ] ذلك أنهما إذا غيرا ؛ إن صارا بمنزلة الإزار والنعل فيجوز لبسهما مغيرين مع وجود الإزار والنعل إذ لا فرق بين نعل ونعل ، وإزار وإزار ، وهذا مخالف لقوله : " السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفاف لمن لم يجد النعلين " فجعلهما لمن لم يجد ، كما في قوله : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) وقوله : ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) وقوله : ( فمن لم يجد فصيام شهرين ) إلى غير ذلك من المواضع ، ومخالف لقوله : " من لم يجد إزارا فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين " ومخالف لقوله : " السراويل إزار من لا إزار له والخفان نعلان من لا نعل له " وهذا واضح .

وإن لم يصير بالتغيير بمنزلة الإزار والخف : فلا فائدة في التغيير بل هو إتلاف بغير فائدة أصلا وإفساد له ، والله لا يحب الفساد .

وأيضا : فإن عامة الصحابة وكبراءهم على هذا ؛ فروي عن الأسود قال : " سألت عمر بن الخطاب قلت : من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة وقال : الخفان نعلان لمن لا نعل له " .

وعن الحارث عن علي قال : "السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفان لمن لم يجد النعلين " .

وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : "إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل ، وإذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين " .

[ ص: 27 ] وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة . قال : " كنت مع عبد الرحمن بن عوف - في سفر - ومعنا حاد ، أو مغن ، فأتاه عمر في بعض الليل ، فقال : ألا أرى أن يطلع الفجر أذكر الله ، ثم التفت فرأى عليه خفين - وهو محرم - قال : وخفين ؟ ! فقال : قد لبستهما مع من هو خير منك " .

وعن مولى الحسن بن علي قال : "رأيت على المسور بن مخرمة خفين وهو محرم فقيل له : ما هذا ؟ ! فقال : أمرتنا عائشة به " .

وأما حديث ابن عمر : فحديث صحيح ، وزيادته صحيحة محفوظة ، وقد زعم القاضي وأصحابه ، وابن الجوزي ، وبعض أصحابنا أنه اختلف في اتصاله .

فقال أبو داود : رواه موسى بن طارق ، عن موسى بن عقبة موقوفا على ابن عمر ، قال : وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب .

قالوا : وقد روي فيه القطع وتركه ؛ فإن النجاد روى عن نافع عن ابن [ ص: 28 ] عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " السراويل لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن لم يجد النعلين " .

وهذا غلط ؛ فإنه لم يختلف أحد من الحفاظ في اتصاله ، وأن هذه الزيادة متصلة . وإنما تكلم أبو داود في قوله : " لا تنتقب المرأة الحرام ، ولا تلبس القفازين " وذكر أن هذه الزيادة : من الناس من وقفها ، ومنهم من رفعها ، مع أنه قد أخرجها البخاري . وهذا بين في سنن أبي داود ، فمن توهم أن أبا داود عنى زيادة القطع : فقد غلط - عليه - غلطا بينا فاحشا .

واعتذر بعضهم - عنه - بأن عائشة روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما " وكان ابن عمر يفتى بقطعهما ، قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع .

وهذا غلط بين - أيضا - فإن حديث عائشة إنما هو في المرأة المحرمة . لكن هذه الزيادة متروكة في حديث ابن عباس وجابر وغيرهما .

وليس هذا مما يقال فيه الزيادة من الثقة مقبولة ؛ لأن ابن عمر حفظ هذه الزيادة ، وغيره عقلها وذهل عنها أو نسيها ؛ فإن هذين حديثان تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما في وقتين ومكانين .

فحديث ابن عمر تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة قبل أن يحرم على منبره لما سأله السائل " عما يلبس المحرم من الثياب " وقد تقدم أن في بعض طرقه سمعته يقول على هذا المنبر وهو ينهى الناس إذا أحرموا عما يكره لهم ، وذلك إشارة إلى منبره بالمدينة .

[ ص: 29 ] وفي رواية " أن رجلا نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد " رواه الدارقطني .

وتقدم في لفظ آخر صحيح : " أن رجلا سأله ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا ؟ " فعلم أنهم سألوه قبل أن يحرموا .

وحديث ابن عباس كان وهو محرم بعرفات كما تقدم ، وقد بين فيه أنه لم يذكر القطع .

قال الدارقطني : سمعت أبا بكر النيسابوري يقول في حديث ابن جريج ، وليث بن سعد ، وجويرية ابن أسماء ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد : ما يترك المحرم من الثياب ؟ . وهذا يدل على أنه قبل الإحرام بالمدينة ، وحديث شعبة ، وسعيد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس " أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات " هذا بعد حديث ابن عمر .

فمن زعم أن هذه الزيادة حفظها ابن عمر دون غيره : فقد أخطأ .

[ ص: 30 ] قال المروذي احتججت على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت : وهو زيادة في الخبر ، فقال : هذا حديث وذاك حديث .

ويبين ذلك أنهما حديثان متغايرا اللفظ والمعنى في هذا ما ليس في هذا ، وفي هذا ما ليس في هذا .

وإذا كان كذلك : فحديث ابن عباس هو الحديث المتأخر ، فإما أن يبنى على حديث ابن عمر ويقيد به ، أو يكون ناسخا له ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أولا بقطعها ، ثم رخص لهم في لبسها مطلقا من غير قطع ، وهذا هو الذي يجب حمل الحديثين لوجوه :

أحدها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بلبس الخفاف والسراويلات ، وموجب هذا الكلام هو لبس الخف المعروف ، ولا يجوز أن يكون ترك ذكر القطع لأنه قد تقدم منه أولا بالمدينة ؛ لأن الذين سمعوا ذلك منه بالمدينة كانوا بعض الذين اجتمعوا بعرفات ، وأكثر أولئك الذين جاءوا بعرفات من النواحي ليسوا من فقهاء الصحابة ، بل قوم حديثوا عهد بالإسلام ، وكثير منهم لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل تلك الأيام ، وفيهم الأعراب ونحوهم ، وقد قال لهم في الموسم : " لتأخذوا عني مناسككم " . فكيف يجوز أن يأمرهم بلبس الخفاف والسراويلات ومراده الخف المقطوع والسراويلات المفتوقة من غير أن يكون هناك قرينة مقالية ولا حالية تدل على ذلك ، بل القرائن تقضي بخلاف ذلك بناء على أنه أمر بالقطع لناس غيرهم . هذا لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن [ ص: 31 ] ذلك تلبيس وتأخير للبيان عن وقت الحاجة ، وذلك لا يجوز عليه . وما هذا إلا بمثابة أن يقول رجل لخياط : خط لي قميصا أو خفا ، فيخيط له صحيحا ، فيقول : إنما أردت قميصا نفيرا أو خفا مقطوعا لأني قد أمرت بذلك للخياط الآخر ، فيقول : وإذا أمرت ذاك ولم تأمرني أفأعلم الغيب ، بل أمره - صلى الله عليه وسلم - بلبس الخف والسراويل وسكوته عن تغييرهما يدل أصحابه الذين سمعوا الحديث الأول أنه أراد لبسهما على الوجه المعروف ، وأنه لو أراد تغييرهما لذكره ، كما ذكره أولا ، كما فهموا ذلك منه على ما تقدم .

ويوضح ذلك : أنه لو كان - صلى الله عليه وسلم - مكتفيا بالحديث الأول لاكتفى به في أصل الأمر بلبس الخف لمن لم يجد النعل ، ولم يعده ثانيا . فإذا لم يستغن عن أصل الأمر فكيف يستغني عن صفته ويتركه ملبسا مدلسا ، وقد كان الإعراض عن ذكر أصله وصفته أولى في البيان - لو كان حاصلا بالحديث الأول - من ذكر لفظ يفهم خلاف المراد .

الثاني : أن حديث ابن عمر نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه : وهم بالمدينة قبل الإحرام عن لبس السراويل مطلقا كما نهى عن لبس العمامة والقميص ولم [ ص: 32 ] يأذن في لبسه بحال ، ونهى عن لبس الخف إلا إذا عدم النعل فيلبس مقطوعا . ففهم ابن عمر منه الأمر بالقطع للرجال والنساء لعموم الخطاب لهما كما عمهم النهي عن لبس ثوب مسه ورس أو زعفران ، وإن لم يعمهم النهي عن لبس ثوب القميص والبرانس والسراويلات ، فإن المرأة محتاجة إلى ستر بدنها ورأسها ، فكان ذلك قرينة عند ابن عمر تعلمه أنها لم تدخل في النهي عن ذلك ، وليس بها حاجة إلى الخف الصحيح ، فجوز أن تنهى عن لبس ما يصنع لرجلها كما نهيت عن القفاز والنقاب ، فلو ترك الناس وهذا الحديث لم يجز لأحد لبس السراويل إلا أن يفتقه ، أو يفتدى بلبسه صحيحا . وكان معناه أن عدم الإزار والنعل لا يبيح غيره إلا أن يكون قريبا منه ، وذكر هذا في ضمن ما نهى عنه من سائر الملابس ؛ مثل العمامة والبرنس والقميص والمصبوغ بالورس والزعفران .

فمضمون هذا الحديث : هو المنهي عنه من اللباس ليجتنبه الناس في إحرامهم ، وكان قطع الخف إذ ذاك مأمورا به ، وإن أفسده إتباعا لأمر الله ورسوله حيث لا رخصة في البدل ، ثم جاء حديث ابن عباس - بعد هذا - بعرفة ليس فيه شيء من المنهيات ، إنما فيه : الأمر لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويل ، ولمن لم يجد النعل أن يلبس الخف ، وترك ذكر بقية الملابس وهذا يبين لذي لب أن هذه رخصة بعد نهي حيث رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام الإحرام المشقة والضرورة بكثير من الناس إلى السراويلات والخفاف ، فرخص فيهما بدلا عن الإزار والنعل ، وأعرض عن ذكر بقية الملابس إذ لا بدل لها لعدم الحاجة إلى البدل منها .

فإن بالناس حاجة عامة إلى ستر العورة شرعا ، وبهم حاجة عامة إلى الاحتذاء طبعا ، فإن الاحتفاء فيه ضرر عظيم ومشقة شديدة خصوصا على المسافرين في مثل أرض الحجاز . واقتطع ذكر الخف والسراويل دون غيره : ليبين أنه إنشاء حكم - غير الحكم الأول - وبيانه ، وأنه ليس مقصوده إعادة ما كان ذكره [ ص: 33 ] بالمدينة . إذ لو كان مقصوده بيان أنواع الملابس لذكر ما ذكره بالمدينة ، فسمع ذلك ابن عباس وجابر وغيرهما ، وأفتى بمضمونه خيار الصحابة وعامتهم ، ولم يسمع ابن عمر هذا فبقي يفتي بما سمعه أولا .

كما أن حديثه في المواقيت ليس فيه ميقات أهل اليمن ، لأنه وقت بعد ، وكما أفتى النساء بالقطع حتى حدثته عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رخص للنساء في الخفاف مطلقا ، أو أنهن لم يعنين بهذا الخطاب .

ولهذا أخذ بحديثه بعض المدنيين في أن السراويل لا يجوز لبسه ، وأن لابسه للحاجة عليه الفدية حيث لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه . ومعلوم أن هذا موجب حديثه . فإذا نسخ موجب حديثه في السراويل : نسخ موجبه في الخف ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرهما جميعا وسبيلهما واحد .

قال مالك وقد سئل . . . النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من لم يجد إزارا فليلبس سراويل " قال مالك : لم أسمع بهذا ، ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ، ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين .

فهذا قول من لم يبلغه حديث ابن عباس . وقد أحسن فيما فهم مما سمع .

[ ص: 34 ] الثالث : أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال : " الخفاف لمن لم يجد النعلين والسراويل لمن لم يجد الإزار " لو قصد بذلك الخف المقطوع لوجب أن يقصد بذلك السراويل المفتوق ؛ لأن المقصود بقطع الخف تشبيهه بالنعل، فكذلك السراويل ينبغي أن يشبه بالإزار ، بل فتق السراويل أولى لوجوه :

أحدها : أنه مخيط بأكثر مما يحيط به الخف .

والثاني : أنه ليس في فتقه إفساد له ، بل يمكن إعادته سراويلا بعد انقضاء الإحرام .

والثالث : أن فتق السراويل يجعله بمنزلة الإزار حتى يجوز لبسه مع وجود الإزار بالإجماع ، بخلاف قطع الخف ، فإنه يقربه إلى النعل ولا يجعله مثله . فإذا لم يقصد إلا السراويل المعروف كما تقدم فالخف أولى أن لا يقصد به إلا الخف المعروف . وإن جاز أن يدعي أنه اكتفى بما ذكره إلا من القطع : جاز أن يدعي أنه اكتفى بالمعنى الذي نبه عليه في الأمر بالقطع ، وهو تغيير صورته إلى ما يجوز لبسه ، وذلك مشترك بين الخف والسراويل ، بل هو بالسراويل أولى فإن تقييد المطلق بالقياس جائز كتقييده بلفظ آخر . لكن هذا باطل لما تقدم فالآخر مثله . وهذا معنى ما ذكره مهنا لأبي عبد الله وقد حكى له أنه ناظر بعض أصحاب الشافعي في قطع الخفين ، وأن سبيل السراويل وسبيل الخف واحد . فتبسم أبو عبد الله ، وقال : ما أحسن ما احتججت عليه .

[ ص: 35 ] الوجه الرابع : أن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان اللفظ صالحا له عند الإطلاق ولغيره ، فيتبين باللفظ المقيد أنما المراد هو دون غيره ، مثل قوله : ( فتحرير رقبة ) فإنه اسم مطلق يدخل فيه المؤمنة والكافرة ، فإذا عني به المؤمنة جاز لأنها رقبة وزيادة . وكذلك صوم ثلاثة أيام يصلح للمتتابعة وللمتفرقة ، فإذا بين أنها متتابعة جاز .

وهنا أمر بلبس الخف والسراويل ، ومتى قطع الخف حتى صار كالحذاء وفتق السراويل حتى صار إزارا : لم يبق يقع عليه اسم خف ولا سراويل . ولهذا إذا قيل امسح على الخف ، ويجوز المسح على الخف ، وأمرنا أن لا ننزع خفافنا لم يدخل فيه المقطوع والمداس ، ولا يعرف في الكلام أن المقطوع والمداس ونحوهما يسمى خفا ، ولهذا في حديث : " فليلبس وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " فسماهما خفين قبل القطع ، وأمر بقطعهما كما يقال : افتق السراويل إزارا ، واجعل القميص رداء ، ومعلوم أنه إنما يسمى قميصا وسراويل قبل ذلك . فعلم أن المقطوع لا يسمى بعد قطعه خفا أصلا ، إلا أن يقال : خف مقطوع ، كما يقال : قميص مفتوق وهو بعد الفتق ليس بقميص ولا سراويل ، وكما يقال : حيوان ميت ، وهو بعد الموت ليس بحيوان أصلا . فإن حقيقة الحيوان : الشيء الذي به حياة ، وكما يقال لعظام الفرس : هذا فرس ميت ، ويقال لخل الخمر : هذا خمر مستحيل . ومعلوم أنه ليس خمرا ؛ يسمى الشيء باسم ما كان عليه إذا وصف بالصفة التي هو عليها الآن ؛ لأن مجموع الاسم والصفة ينبئ عن حقيقته ، فإذا ذكر الاسم وحده : لم يجز أن يراد به إلا معناه الذي هو معناه . والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هنا بلبس الخف ، وما تحت الكعب لا يسمى خفا ، فلا يجوز حمل الكلام عليه ، فضلا عن تقييده به ، بخلاف الرقبة المؤمنة ، والأيام المتتابعات فإنها رقبة وأيام ، وهذا بين واضح .

[ ص: 36 ] الوجه الخامس : أنه لو سمى خفا فإن وجوده نادر ، فإن الأغلب على الخفاف الصحة ، وإنما يقطع الخف من له في ذلك غرض . والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " السراويل لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن لم يجد النعال " فذكر الخفاف بصيغة الجمع معرفة بلام التعريف ، وهذا يقتضي الشمول والاستغراق ، فلو أراد بذلك ما يقل وجوده من الخفاف ؛ لكان حملا للفظ العام على صور نادرة .

وهذا غير جائز أصلا ؛ ولهذا أبطل الناس تأويل من تأول قوله : " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها " على المكاتبة ، فكيف إذا كانت تلك الصور النادرة بعض مجازات اللفظ ؟ ! فإنه أعظم في الإحالة ، لأن من تكلم بلفظ عام ، وأراد به ما يقل به وجوده من أفراد ذلك العام ويندر ولا يسمى به إلا على وجه التجوز مع نوع قرينة - مع أن الأغلب وجودا واستعمالا غيره - لا يكون مبينا بالكلام ، بل ملغزا ، وهذا أصل ممهد في موضعه .

[ ص: 37 ] وكذلك رواية من روى : " من لم يجد نعلين فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل " فإن الخفين مطلق ، وتقييد المطلق مثل تخصيص العام فلا يجوز أن يقيد بصورة نادرة الوجود ، ولا يقع عليها الاسم إلا مجازا بعيدا ، وصار مثل أن يقول : البس قميصا ، ويعني به قميصا بقرت أكمامه وفتقت أوصاله ، فإن وجود هذا نادر ، وبتقدير وجوده لا يسمونه قميصا .

ولما تفطن جماعة من أهل الفقه لمثل هذا علموا أن أحد الحديثين لا يجوز أن يعنى به ما عني بالآخر ، لم يكن لهم طريق إلا أن قالوا : هما حديث واحد فيه زيادة حفظها بعضهم ، وأغفلها غيره .

وقد بينا أنهما حديثان . وبهذا الذي ذكرنا يتبين بطلان ما قد يورد على هذا ، مثل أن يقال : التخصيص والتقييد أولى من النسخ ، أو أن من أصلنا أن العام يبنى على الخاص ، والمطلق على المقيد ، وإن كان العام والمطلق هما المتأخران في المشهور من المذهب ، فإنما ذاك حيث يجوز أن يكون التخصيص والتقييد واقعا ، فيكون الخطاب الخاص المقيد يبين مراد المتكلم من الخطاب العام المطلق . أما إذا دلنا دليل على أن المراد باللفظ إطلاقه وعمومه ، أو أن تخصيصه وتقييده لا يجوز ، أو أن اللفظ ليس موضوعا لتلك الصورة المخصوصة المقيدة ، أو كان هناك قرينة تبين قصد النسخ والتغيير ، إلى غير ذلك من الموجبات فإنه يجب المصير إليه ، وببعض ما ذكرناه صار [ قوله : ( وقاتلوا المشركين كافة ) ناسخ .

[ ص: 38 ] لقوله : ( قتال فيه كبير ) وقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ناسخا لقوله : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ) فكيف وما ذكرناه بعيد عن المطلق والمقيد .

الوجه السادس : أن عبد الرحمن لما أنكر عليه عمر الخف قال : قد لبسته مع من هو خير منك يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد بين أنه لبس الخف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان خفا صحيحا وهذا بين .

السابع : أن أكابر الصحابة ؛ مثل عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وعائشة وابن عباس : رخصوا في لبس الخفين والسراويلات وترك قطعهما ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى المحرم عن لبس الخفاف والسراويلات نهيا عاما قد علم ذلك كل أحد ، فترخيصهم لمن لم يجد الإزار والنعل : أن يلبس السراويل والخف لا يجوز أن يكون باجتهاد بل لا بد أن يكون عن علم عندهم بالسنة . ثم ابن عمر أمر بالقطع وغيره لم يأمر به ، بل جوز لبس الصحيح ، ومعلوم أن ابن عمر اعتبر سماعه بالمدينة ، فلو لم يكن عند الباقين علم ناسخ ينسخ ذلك ، ومجيء الرخصة في بعض ما قد كان حظر لم يحلوا الحرام ، فإن القياس لا يقتضي . . . .

الثامن : أن من أصحابنا من حمل حديث ابن عمر على جواز القطع كما سيأتي ، ويكون فائدة التخصيص أن قطعهما في غير الإحرام ينهى عنه بخلاف حال الإحرام فإن فيه فائدة وهو التشبيه بفعل المحرم ، ويقوي ذلك : أن القطع [ ص: 39 ] كان محظورا لأنه إضاعة للمال ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال ، وصيغة أفعل إذا وردت بعد حظر إنما تفيد مجرد الإذن والإباحة . وهذا الجواب فيه نظر .

فعلى هذا هل يستحب قطعهما ؟ قال بعض أصحابنا : يستحب لأن فيه احتياطا وخروجا من الخلاف .

وقال القاضي وابن عقيل وأبو الخطاب - في حديث ابن عمر - : يحمل قوله " وليقطعهما " على الجواز ، ويكون فائدة التخصيص : أنه يكره قطعهما لغير الإحرام لما فيه من الفساد ، ولا يكره للإحرام لما فيه من التشبيه بالنعلين التي هما شعار الإحرام .

وقال أحمد - في رواية مهنا - : ويلبس الخفين ولا يقطعهما حديث ابن عباس لا يقول فيه : يقطعهما. هشيم ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب : " إذا لم يجد المحرم نعلين فليلبس الخفين " وذكر حديث ابن عباس قال : وقد رواه جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو الزبير عن جابر [ ص: 40 ] وقد كره القطع عطاء وعكرمة ، فقالوا : القطع فساد .

وقال - في رواية أبي طالب - : ويروى عن علي بن أبي طالب : "قطع الخفين فساد يلبسهما كما هما " .

ولو كان عليه كفارة في لبسهما ما كان رخصة . وهذا الكلام يقتضي كراهة قطع الخف . وهذا أصح ؛ لأن الأمر بقطعهما منسوخ كما تقدم ، وقد اطلعوا على ما خفي على غيرهم .

فإن قيل : فهلا أوجبتم الفدية مع اللبس ، لأن أكثر ما فيه أنه قد لبس السراويل والخف لحاجة . والمحرم إذا استباح شيئا من المحظورات لحاجة فلا بد له من الفدية ، كما لو لبس القميص ، أو العمامة ، لبرد أو حر أو مرض ؟ .

قلنا : لو خيل إلينا أن هذا قياس صحيح لوجب تركه لأن الذي أوجب في حلق الرأس ونحوه للحاجة الفدية هو الذي أباح لبس السراويل والخف بغير فدية ، حيث أباح ذلك . ولو أوجب الفدية لما أمر بقطعه أولا وسما من غير فدية كما تقدم تقريره . فإذا قسنا أحدهما بالآخر كان ذلك بمنزلة قياس البيع على الربا ، فإنه لا يجوز الجمع بين ما فرق الله بينه فكيف وقد تبين لنا أنه قياس [ ص: 41 ] فاسد ؛ وذلك أن ترك واجبات الحج وفعل محظوراته يوجب الفدية إذا فعلت لعذر خاص يكون ببعض الناس بعض الأوقات .

فأما ما رخص فيه للحاجة العامة وهو ما يحتاج إليه في كل وقت غالبا فإنه لا فدية معه ، ولهذا رخص للرعاة والسقاة في ترك المبيت بمنى من غير كفارة لأنهم يحتاجون إلى ذلك كل عام ورخص للحائض أن تنفر قبل الوداع من غير كفارة ؛ لأن الحيض أمر معتاد غالب . فكيف بما يحتاج إليه الناس وهو الاحتذاء والاستتار ، فإنه لما احتاج إليه كل الناس - لما في تركهما من الضرر شرعا وعرفا وطبعا - لم يحتج هذا المباح إلى فدية ، لا سيما وكثيرا ما يعدل إلى السراويل والخف للفقر حيث لا يجد ثمن نعل وإزار ، فالفقر أولى بالرخصة ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الصلاة في ثوب واحد - قال : " أولكلكم ثوبان " .

فإن قيل : فهو يحتاج إلى ستر منكبيه - أيضا - للصلاة ، فينبغي إذا لم يجد إزارا أن يلبس القميص .

قلنا : يمكنه أن يتشح بالقميص كهيئة الرداء من غير تغيير لصورته ، وذلك يغنيه عن لبسه على الوجه المعتاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية