صفحة جزء
فصل .

وإذا ذبح المحرم صيدا : فهو حرام كما لو ذبحه كافر غير الكتابي ، وهو بمنزلة الميتة ، وتسمية الفقهاء المتأخرين : ميتة : بمعنى أن حكمه حكم الميتة ، إذ حقيقة الميتة ما مات حتف أنفه ، قال - في رواية حنبل - : إذا ذبح المحرم لم يأكله حلال ولا حرام هو بمنزلة الميتة .

وفي لفظ لحنبل وإبراهيم في محرم ذبح صيدا : " هو ميتة ; لأن الله تعالى قال : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) فسماه قتلا فكل ما اصطاده المحرم أو ذبحه فإنما هو قتل قتله .

وفي لفظ : لا إذا ذبح المحرم الصيد لم يأكله أحد ; لأن الله سماه قتلا فلا يعجبنا لأحد أن يأكله .

وذلك لما احتج به أحمد من قول الله سبحانه ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) فسمى الله سبحانه رمي [ ص: 154 ] الصيد بالسهم ونحو ذلك قتلا ، ولم يسمه تذكية .

وذلك يقتضي كونه حراما من وجوه :

أحدها : أن كل حيوان نهى الشرع عن قتله ، فإنه حرام ، كما نهى عن قتل الضفدع ، وعن الهدهد ، والصرد ، وعن قتل الآدمي ; لأن النهي عن قتله يقتضي شرفه وكرامته وذلك يوجب حرمته .

الثاني : أنه سمى جرحه قتلا ، والقتل إذا أطلق في لسان الشرع فإنه يقتضي الفعل المزهق للروح الذي لا يكون ذكاة شرعية ، كما قال تعالى : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) ، ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) إلى غير ذلك من ذكر قتل الآدمي ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ينزل ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير " ، وقال : " خمس من الدواب يقتلن في الحل ، ولا جناح على من قتلهن " وقال " اقتلوا الأبتر وذو [ ص: 155 ] الطفيتين " وأمر بقتل الأسودين في الصلاة ؛ الحية والعقرب ، ونهى عن قتل الحيوان لغير مأكلة ، وقال : " من قتل عصفورا بغير حقه فإنه يعج إلى الله يوم القيامة يقول : ربي سل هذا فيم قتلني " .

[ ص: 156 ] وسئل عن ضفدع تجعل في دواء ، فنهى عن قتلها ، وقال : " إن نقيقها تسبيح " ، ونهى عن قتل أربع من الدواب ، وقال في الفعل المبيح : " إلا ما ذكيتم " ، وقال : " دباغ الأديم ذكاته " ، وقيل له : أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ " .

[ ص: 157 ] فلما سمى الله سبحانه رمي الصيد بالسهم وإزهاق روحه قتلا ، ولم يسمه ذكاة ولا عقرا ، علم أنه ليس مذكى تذكية شرعية .

وأيضا فإن هذا عقر قد حرمه الشرع لمعنى في القاتل ، فلم يفد الإباحة ولا الطهارة كذبح المجوسي والمرتد ، وعكسه ذبح المسروق والمغصوب - إن سلم - فإن ذلك المعنى في المالك ، وهو أن نفسه لم تطب به ، ولهذا لا يختلف حال الغاصب قبل الإذن وبعده ، إلا فيما يتعلق بالمغصوب خاصة بخلاف المحرم ، فإن إحرامه صفة في نفسه تكون مع وجود الصيد وعدمه كدين المشرك والمرتد .

وأيضا فإنه عقر محرم لحق الله فلم يفد الإباحة ، كالعقر في غير الحلق واللبة ، وبكلب غير معلم ، وبدون التسمية وبدون قصد الذكاة ، وعقر المشرك ، وذلك لأن الحيوان قبل الذكاة حرام فلا يباح إلا بأن يذكى على الوجه المأذون فيه ، كما أن الفرج قبل العقد محرم ، فلا يباح إلا بعقد شرعي ، فإذا نهى الشارع عن عقره لم يكن عقره مشروعا ، فيبقى على أصل التحريم ، كما لو نكح المرأة نكاحا لم يبحه الشارع ; ولأنه قتل لا يبيحه المقتول لقاتله بحال ، فلا يباح لغيره كسائر ما نهى عنه الشرع من القتل ; ولأنه قتل محرم لحرمة الحيوان وكرامته ، فلا يفيد الحل كذبح الإنسان والضفدع والهدهد ; ولأن جرح الصيد الممتنع يفيد الملك والإباحة ، واقتضاؤه الملك أقوى من اقتضائه الإباحة ; لأنه يحصل بمجرد إثباته وبدون قصد الذكاة ، ويثبت للمشرك ، فإذا كان جرح الصيد في حال الصيد لا يفيد الملك ، فأن لا يفيد الإباحة أولى وأحرى .

وصيد الحرم - إذا ذبح فيه - بمنزلة الميتة : كالصيد الذي يذبحه المحرم ، [ ص: 158 ] قال - في رواية ابن منصور - وقد سئل : هل يؤكل الصيد في الحرم ؟ قال : إذا ذبح في الحل . ونقل عنه أيضا : إذا رماه في الحل فتحامل فدخل الحرم يكره أكله " .

وقال - في رواية حنبل - : وإن دخل الحرم فلا يصطاد ، ولا أرى أن يذبح إلا أن يدخل مذبوحا من خارج الحرم فيأكله ، ولا أرى أن يذبح شيئا من صيد الحل ولا الحرم ، وكذلك صيد المدينة الذي يصطاد فيه ، قال - في رواية حنبل - : صيد المدينة حرام أكله حرام صيده ، وخرجها القاضي على وجهين ، أحدهما : كذلك ، والثاني : الفرق ; لأن حرمة حرم المدينة لا يوجب زوال الملك في الصيد المنقول إليها من خارج بخلاف حرمة حرم مكة .

وإن أخرجه من الحرم ثم ذبحه : لم يحل أيضا كما لو أمسكه حتى تحلل ثم ذبحه ، وإذا اشترك حلال وحرام في قتل صيد ، فهو حرام أيضا ، كما لو اشترك مسلم ومجوسي في الذكاة .

وإن أعان المحرم حلالا بدلالة أو إعارة آلة ونحو ذلك ، فقال القاضي وأصحابه : هو ذكي مباح للحلال ولغير المحرم الدال ; لأن في حديث أبي [ ص: 159 ] قتادة : " فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة ، فعقر منها أتانا ، فنزلوا فأكلوا من لحمها ، قال : فقالوا : أكلنا لحما ونحن محرمون ، فحملوا ما بقي من لحم الأتان ، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : يا رسول الله إنا كنا أحرمنا ، وكان أبو قتادة لم يحرم ، فرأينا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا ، فنزلنا فأكلنا من لحمها ، فقالوا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي . فقال : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا ما بقي من لحمها " . رواه البخاري ، وفي لفظ مسلم : هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ قال : قالوا : لا . قال : فكلوا ما بقي من لحمها " .

وهذا يقتضي أنه لو أشار بعضهم حرم على جميعهم .

وقال أبو بكر : إذا أبان المحرم فاصطاده حلال : فعلى المحرم الجزاء ولا يأكل الحلال والمحرم من الصيد ; لأنه في حكم الميتة .

ولأنه إذا أعان المحرم على قتله : كان مضمونا عليه ، وضمانه يقتضي أنه قتل بغير حق فيكون ميتة ، فإن الذكي لا يضمن كما لو ذبحه الحلال لحرم .

[ ص: 160 ] وإن كسر بيضة أو قطع شجرة : لم يجز له الانتفاع بها ، وأما لغيره ... فإذا اضطر إلى الصيد جاز له عقره ، ويأكله وعليه الجزاء ; لأن الضرورة تبيح أكل جميع المحظورات ، سواء كان المنع لحق الله أو لحق آدمي ، والصيد لا يخرج عن هذين .

وإذا قتله : فهل يكون ذكيا بحيث يباح أكله للمحلين أو ميتة ؟ قال : ليست هذه ذكاة بل هو ميتة في جميع الأحوال ; لأن أحمد قال : إنما سماه الله قتلا .

وإذا وجد المضطر ميتة وصيدا : فإنه يأكل الميتة ويدع الصيد . نص عليه في رواية الجماعة .... ; لأن الله استثنى حل الميتة في كتابه للمضطر بقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) ولم يستثن حل الصيد لأحد ، وإنما أبيح استدلالا وقياسا ، وما ثبت حكمه بالنص مقدم على ما ثبت بالاجتهاد ، لا سيما وهو في هذا الحال قد لا يكون مضطرا إلى الصيد .

[ ص: 161 ] وأيضا فإن الصيد يحرم أخذه وقتله وأكله ، والميتة إنما يحرم أكلها خاصة ، وما حرم فيه ثلاثة أفعال ، أعظم مما يحرم فيه فعل واحد .

وأيضا فإن الصيد قد صار بالإحرام حيوانا محترما يشبه الآدمي وماله ، والميتة لا حرمة لها في نفسها ، فيكون استحلال ما لا حرمة له أولى من استحلال ما هو محترم ، كما تقدم الميتة على أخذ أموال الناس .

وأيضا فإن الصيد يوجب بقاء الجزاء في ذمته ، والميتة بخلاف ذلك .

فإن قيل : الصيد أيسر ; لأن من الناس من يقول : هو ذكي وأن أكله حلال ، قيل : هذا غلط ; لأن أحدا من المسلمين لم يقل إنه حلال للقاتل ولا ذكي بالنسبة إليه ، وكونه حلالا لغيره لا يؤثر فيه كطعام الغير مع الميتة ، فإن الميتة تقدم عليه .

فإن وجد ميتة وصيدا قد ذبحه محرم ، فقال القاضي : يأكل ذبيحة المحرم هنا ويترك الميتة ; لأنه لا يحتاج أن يفعل في الصيد غير الأكل ، وأكله أخف حكما من أكل الميتة ; لأن من الناس من يقول : هو ميتة وذكي .

فأما إن ذبح هو الصيد فهنا ينبغي أن يقدم الميتة .

وإن وجد صيدا وطعاما مملوكا لا يعرف مالكه فقال ... يقدم أكل طعام الغير ، وقيل ... .

التالي السابق


الخدمات العلمية