صفحة جزء
[ ص: 162 ] فصل : فأما ما صاده الحلال بغير معونة من المحرم وذكاه ، فإنه مباح للمحرم إذا لم يصده لأجله ولا عقره لأجله ، ومتى فعل ذلك لأجله فهو حلال للحلال ، حرام على المحرم سواء علم الحرام بذلك أو لم يعلم .

وهل يحرم على غيره ؟ ... نص على هذا في رواية الجماعة ; فقال : إذا صيد الصيد من أجله لم يأكله المحرم ، ولا بأس أن يأكل من الصيد إذا لم يصد من أجله إذا اصطاده الحلال ; وذلك لما روى عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن عبد المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه ، أو يصد لكم " رواه الخمسة إلا ابن ماجه .

[ ص: 163 ] وقال الشافعي : هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس .

وقال أحمد في رواية عبد الله : قد روي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لحم الصيد لكم حلال إلا ما صدتم أو صيد لكم " وكرهه عثمان بن عفان لما صيد له .

وحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يأكلوا وهم حرم ، وكان أبو قتادة صاده وهو حلال ، فإذا صاده الحلال فلا بأس أن يأكله المحرم إذا لم يصد من أجله ، ولا يأكله إذا صيد من أجله .

وعلي وعائشة وابن عمر كانوا يكرهون أن يأكل المحرم لحم الصيد ، وكانوا ذهبوا إلى ظاهر الآية : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) وهذا يدل على صحة الحديث عنده .

فإن قيل : فقد قال الترمذي : المطلب لا نعرف له سماعا من جابر ... .

[ ص: 164 ] قيل : قد رواه أحمد عن رجل ثقة من بني سلمة عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لحم الصيد حلال للمحرم ما لم يصده أو يصد له " وهذا الحديث مفسر لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من كراهة صيد الحلال للمحرم ومن إباحته له .

أما الأول : فروى ابن عباس عن الصعب بن جثامة : " أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " متفق عليه ، وفي رواية : " لحم حمار " وفي رواية : " من لحم حمار وحش " وفي رواية : [ ص: 165 ] " شق حمار وحش فرده " وفي رواية : " عجز وحش يقطر دما " رواهن مسلم وغيره .

فهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أعان عليه بوجه من الوجوه ، ولا أمر به ولا علم أنه يصاد له ، وإنما يشبه والله أعلم أن يكون قد رأى لما أهداه أنه صاده لأجله ; لأن الناس كانوا قد تسامعوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل يحب أن يقترب إليه ويهدي إليه ، فلعل الصعب إنما صاده لأجل النبي صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان هذا يكون تركه واجبا ، أو يكون خشي صلى الله عليه وسلم أن يكون صيد لأجله، فيكون قد تركه تنزها ، وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه ، كما كان يدع التمرة خشية أن تكون من تمر الصدقة .

وعن طاوس قال : " قدم زيد بن أرقم فقال له عبد الله بن عباس يستذكره : كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام ، قال : " أهدي له عضو من لحم صيد فرده ، وقال : إنا لا نأكله إنا حرم " .

[ ص: 166 ] رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه .

وعن الحسن بن محمد عن عائشة قالت : " أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشيقة ظبي - وهو محرم - ولم يأكله " رواه عبد الرزاق وأحمد في مسائل عبد الله ، وقال : قال ابن عيينة : الوشيقة ما طبخ وقدد .

وعن إسحق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه - وكان الحارث خليفة عثمان على الطائف " فصنع لعثمان طعاما فيه من الحجل واليعاقيب [ ص: 167 ] ولحم الوحش ، وبعث إلى علي فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له ، فجاءه وهو ينفض الخبط عن يده فقالوا له : كل ، فقال : أطعموه قوما حلالا فإنا حرم ، فقال علي : أنشد من كان هاهنا من أشجع أيعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله ؟ قالوا : نعم " رواه أبو داود ، ورواه أحمد من حديث علي بن زيد بن عبد الله بن الحارث قال : كان أبي الحارث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان ، فأقبل عثمان إلى مكة ، فقال عبد الله بن الحارث ، فاستقبلت عثمان بالنزول بقديد فاصطاد أهل الماء حجلا فطبخناه بماء وملح فجعلناه عرقا للثريد ، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه فأمسكوا ، فقال عثمان : " صيد لم يصطده ولم يأمر بصيده ، اصطاده قوم حل فأطعموناه فما بأس ، فقال عثمان : من يقول في هذا ؟ فقالوا : علي ، فبعث إلى علي فجاء ، قال عبد الله بن الحارث : فكأني أنظر إلى علي حين جاء يحت الخبط عن كفيه ، فقال له عثمان : صيد لم يصده ولم يأمر بصيده ، [ ص: 168 ] اصطاده قوم حل ، فأطعموناه فما بأس ، فغضب علي وقال : أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي بقائمة حمار وحش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا قوم حرم فأطعموه أهل ، قال : فشهد اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال علي : أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي ببيض النعام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا قوم حرم ، أطعموه أهل الحل " قال : فشهد دونهم من العدة من الاثني عشر ، قال : فثنى عثمان وركه عن الطعام ، فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء " .

فهذا الصيد قد كان صنع لعثمان وأصحابه ، وكان عثمان يرى أن ما لم يعن على صيده بأمر أو فعل فلا بأس به ، فلما أخبره علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقبل ما أهدي إليه ، رجع عن ذلك ، وكان لا يأكل مما صنع له ، فروى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : " رأيت عثمان عليه السلام بالعرج وهو محرم في يوم صائف وقد غطى رأسه بقطيفة أرجوان ، ثم أتي بلحم صيد ، فقال لأصحابه : كلوا ، قالوا : ولا تأكل أنت ؟ قال : إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي " رواه مالك وغيره .

[ ص: 169 ] وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : خرج أبي مع عثمان إلى مكة ، فنزلوا ببعض الطريق وهم محرمون فقرب إلى عثمان ظبي قد صيد ، فقال لهم : كلوا فإني غير آكله ، فقال له عمرو : أتأمرنا بما لست بآكله ؟ فقال عثمان : لولا أني أظن أنما صيد لي وأميت من أجلي لأكلت ، فأكلوا ولم يأكل عثمان منه شيئا " رواه سعيد والدارقطني ، ولفظه : " إني لست في ذاك مثلكم إنما صيد لي وأميت باسمي " .

وما نقل عن عثمان من الرخصة مطلقا فقد رجع عنه ; بدليل ما روى سعيد عن بشر بن سعيد أن عثمان رضي الله عنه كان يصاد له الوحش على المنازل ، ثم يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته أو ثلاثا ، ثم إن الزبير كلمه فقال : ما أدري ما هذا يصاد لنا أو من أجلنا أن لو تركناه ، فتركه .

[ ص: 170 ] وهذا متأخر عما روى عبد الله بن الحارث عن أبيه قال : حججت مع عثمان رضي الله عنه وأتي بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ، وعلي جالس فلم يأكل ، فقال عثمان : والله ما صدنا ولا أشرنا ولا أمرنا ، فقال علي : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) .

ثم اتفق رأي عثمان والزبير على أن معنى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما صيد للمحرم لا يأكله ، وكان ذلك بعد أن حدثه علي والأشجعيون بالحديث ، فعلم أنهم فهموا ذاك من الحديث ، ويدل على ذلك أن ابن عباس هو الذي روى حديث الصعب وحديث زيد ، وروى عبد الله في مسند أبيه عن علي قال : " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم صيد وهو محرم فلم يأكله " .

وعن طاوس عن عباس قال : " لا يحل لحم الصيد وأنت محرم . وتلا هذه الآية ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) رواه سعيد وغيره .

ومع هذا فقد روى سعيد وأحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال : " ما صيد قبل أن تحرم فكل ، وما صيد بعدما تحرم فلا تأكل " فيشبه والله أعلم أن يكون ما صيد بعد إحرامه يخاف أن يكون صيد لأجله ، بخلاف ما صيد قبل الإحرام ، فتتفق الآثار المروية في ذلك عن الصحابة على تفسير الحديث .

[ ص: 171 ] وقد روى أحمد عن سعيد بن المسيب : أن عثمان بن عفان أتي بقطا مذبوح - وهو محرم - فأمر أصحابه أن يأكلوا ولم يأكل ، وقال : إنما صيد لي ، وكان علي يكره ذلك على كل حال .

وعن عبد الرحمن بن حاطب : " أن عثمان كره أكل يعاقيب أصيدت له ، وقال : إنما أصيدت وأميتت لي " .

وأما أحاديث الرخصة فما روى عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي - وهو ابن أخي طلحة - قال : " كنا مع طلحة ونحن حرم فأهدي لنا طير وطلحة راقد ، فمنا من أكل ومنا من تورع فلم يأكل ، فلما أفاق طلحة وفق من أكله ، وقال : أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه أحمد ومسلم والنسائي .

[ ص: 172 ] وعن عمير بن سلمة الضمري عن رجل من بهز أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة ، حتى إذا كانوا في بعض وادي الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا ، فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أقروه حتى يأتي صاحبه " فأتى البهزي وكان صاحبه فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون ، قال : ثم مررنا حتى إذا كنا بالأثاية إذا نحن بظبي حاقف في ظل فيه سهم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا أن يقف عنده حتى يجيز الناس عنه . رواه مالك وأحمد والنسائي .

وعن أبي قتادة قال : " كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون ، وأنا غير محرم عام الحديبية ، فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف [ ص: 173 ] نعلي ، فلم يؤذنوني وأحبوا لو أني أبصرته ، والتفت فأبصرته ، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح ، فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح ، فقالوا : والله لا نعينك عليه ، فغضبت فنزلت فأخذتهما ، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ، ثم جئت به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلونه ، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم ، فرحنا وخبأت العضد معي ، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألناه عن ذلك فقال : هل معكم منه شيء ؟ فقلت : نعم ، فناولته العضد ، فأكلها وهو محرم " وفي رواية : " هو حلال فكلوه " متفق عليه ، وللبخاري : قال : " منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا ما بقي من لحمها " ولمسلم : " هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا " .

وقد روى عبد الرزاق ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ، وأحرم أصحابي ولم أحرم ، فرأيت حمارا فحملت عليه فاصطدته ، فذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أني لم أكن أحرمت وأني إنما صدته لك ، فأمر [ ص: 174 ] النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا ، ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له ، رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني ، وقال أبو بكر النيسابوري : قوله : إني اصطدته لك ، وقوله : لم يأكل منه ، لا أعلم أحدا ذكره في هذا الحديث غير معمر ، وهو موافق لما روي عن عثمان أنه صيد له طائر وهو محرم فلم يأكل ، وهذا إسناد جيد إلا أن الروايات المشهورة فيها أنه أكل منه صلى الله عليه وسلم فينظر ... .

[ ص: 175 ] وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه أقبل من البحرين حتى إذا كان بالربذة وجد ركبا من العراق - محرمين - فسألوه عن صيد وجدوه عند أهل الربذة ، فأمرهم بأكله ، قال : ثم إني شككت فيما أمرتهم ، فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لعمر بن الخطاب ، فقال : ماذا أمرتهم به ؟ قال : بأكله ، فقال عمر : لو أمرتهم بغير ذلك لفعلت بك . يتوعده . "

وعن ابن عمر قال : " قدم أبو هريرة من البحرين حتى إذا كان بالربذة سئل عن قوم محرمين أهدي لهم لحم صيد أهداه حلال ، فأمرهم بأكله ، فلما قدم على عمر ذكر ذلك له ، فقال عمر : ما أمرتهم ؟ قال : أمرتهم بأكله ، قال : لو أمرتهم بغير ذلك لأوجعتك ضربا ، فقال رجل لابن عمر : أتأكله ؟ فقال : أبو هريرة خير مني ، وعمر خير مني " رواه سعيد .

وروي عن الشعبي ومجاهد قال : " إذا رأيتم الناس يختلفون فانظروا ما فعل عمر فاتبعوه " .

وأيضا فإن الله سبحانه قال : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) والمراد بالصيد نفس الحيوان المصيد لا كما قال بعضهم أنه مصدر صاد يصيد صيدا ، واصطاد يصطاد [ ص: 176 ] اصطيادا ، وأن المعنى : حرم عليكم الاصطياد في حال من الإحرام لوجوه :

أحدها : أن الله حيث ذكر الصيد ، فإنما يعني به ما يصاد ، كقوله : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) وقوله : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم ) وإنما يستمتعون بما يصاد لا بالاصطياد .

وقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) بعد قوله : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) .

الثاني : أن التحريم والتحليل في مثل هذا إنما يضاف إلى الأعيان ، وإذا كان المراد أفعال المكلفين كقوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) ( أحل لكم الطيبات ) ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ( غير محلي الصيد ) ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) ، وهذا كثير في القرآن والحديث .

ثم قال تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ) [ ص: 177 ] فعلم أن المراد نفس المصيد .

الثالث : أن قوله : ( صيد البحر ) المراد به ما يصاد منه; لأنه عطف عليه ، وطعامه : مالحه وطافيه ، فلا بد أن يكون المقرون بالطعام هو النوع الآخر وهو الرطب الصيد ; ولأنه قال : ( متاعا لكم ) وإنما يستمتع بنفس ما يصاد لا بالفعل ، فإذا كان صيد البحر قد عني به الصيد ، فكذلك صيد البر; لأنه مذكور في مقابلته .

الرابع : أن الصحابة فسروه بذلك كما تقدم عنهم ، ولم ينقل عن مثلهم خلاف في ذلك .

الخامس : أن الفعل لا يضاف إلى البر والبحر إلا على تكلف بأن يقال : الصيد في البر والصيد في البحر ، ثم ليس مستقيما ; لأن الصائد لو كان في البحر وصيده في البر لحرم عليه الصيد ، ولو كان بالعكس لحل له ، فعلم أن العبرة بمكان الصيد الذي هو الحيوان لا بمكان الاصطياد الذي هو الفعل .

السادس : أنه إذا أطلق صيد البر وصيد البحر : فهم منه الصيد البري والبحري فيجب حمل الكلام على ما يفهم منه ، وإذا كان المعنى : حرم عليكم الصيد الذي في البر ، فالتحريم إذا أضيف إلى المعين كان المراد الفعل فيها ، وقد فسرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد فعل يكون سببا إلى هلاك الصيد ، وأكل صيد يكون للمحرم سبب في قتله بما ذكرنا عنه صلى الله عليه وسلم ، كما فسر قوله : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) على اجتناب الفروج [ ص: 178 ] خاصة ، ودل على ذلك أشياء :

أحدها : أنه إنما حرم أكل الصيد ; لأن إباحته تفضي إلى قتله ، ولهذا بدأ الله سبحانه بالنهي عن قتله ، فقال : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ثم أتبعه بقوله : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) فالمقصود من التحريم : استحياء الصيد واستبقاؤه من المحرمين ، وأن لا يتعرضوا له بأذى ، ولهذا إذا قتلوه حرم عليهم وعلى غيرهم قطعا لطمع الانتفاع به إذا قتله المحرم بوجه من الوجوه ، فإذا كان الحلال هو الذي قد صاده كما أباحه الله له وذكاه لم يقع شيء من الفعل المكروه ، فلا وجه للتحريم على المحرم ، وخرج على هذا ما إذا كان قصد الحلال اصطياده للحرام ، فإن المحرم صار له سبب في قتل الصيد وإن لم يقصده ، فإذا علم الحلال أنما صاده الحلال لا يحل كف الحلال عن الاصطياد لأجل الحرام ، فلم يبق للمحرم سبب في قتله بوجه من الوجوه ، وصار وجود المحرم في قتل الصيد كعدمه .

الثاني : أن الصيد اسم للحيوان الذي يصاد ، وهذا إنما يتناوله إذا كان حيا ، فأما بعد الموت فلم يبق يصد ، فإذا صاد المحرم الصيد وأكله ، فقد أكل لحم [ ص: 179 ] الصيد وهو محرم ، أما إذا كان قد صيد قبل إحرامه ، أو صاده حلال لنفسه ثم جاء به قديدا أو شواء أو قديرا ، فلم يعترض المحرم لصيد البر ، وإنما تعرض لطعامه ، وقد فرق الله بين صيد البحر وطعامه ، فعلم أن الصيد هو ما اصطيد منه والطعام ما لم يصطد منه ، إما لكونه قد طفا أو لكونه قد ملح ، ثم إن ما حرم على المحرم صيد البر خاصة دون طعام صيد فعلم أنه إنما حرم ما اصطيد في حال الإحرام .

فإذا كان قد اصطاده هو أو صيد لأجله فقد صار للمحرم سبب في قتله حين هو صيد فلا يحل ، أما إذا صاده الحلال وذبحه لنفسه ، ثم أهداه أو باعه للمحرم فلم يصادفه المحرم إلا وهو طعام لا صيد فلا يحرم عليه ، وهذا بين حسن ، وقد روي عن عروة عن الزبير أنه كان يتزود صفيف الظباء في الإحرام ، رواه مالك .

الثالث : أن الله إنما حرم الصيد ما دمنا حرما ، ولو أحل الرجل وقد صاد صيدا أو قتله وهو محرم لحرم عليه بعد الإحرام ، فعلم أن المقصود تحريمه إذا كان صيدا وقت الإحرام ، فإذا صيد قبل الإحرام أو صاده غير محرم ، فلم يتناول الصيد وقت الإحرام ، ولا تناوله أحد بسبب محرم ، فلا يكون حراما في حال الإحرام ، كما أنه لو تناوله أحد في حال الإحرام كان حراما في حال الإحلال .

[ ص: 180 ] الرابع : أن الصيد اسم مشتق من فعل; لأن معناه المصيد .

الخامس : أن الله سبحانه وتعالى لو أراد تحريم أكله لقال : ولحم الصيد ، كما قال : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) وذلك أن المحرم إذا كان لا حياة فيه كالدم والميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة أضيف التحريم إلى عينه ؛ للعلم بأن المراد الأكل ونحوه ، أما إذا كان حيا فلو قيل : والخنزير ، لم يدر ما المحرم منه ؛ أهو قتله أو أكله أو غير ذلك ، فلما قيل : ولحم الخنزير علم أن المراد تحريم الأكل ونحوه ، فلما قال في الصيد : وحرم عليكم صيد البر ؛ علم أن المراد تحريم قتله ، وتحريم الأكل الذي يفضي إباحته إلى قتله ، لا مطلق تحريم أكل لحمه ، وهذا حسن لمن تأمله .

فعلى هذا إذا صيد من أجل محرم بعينه جاز لغيره من المحرمين الأكل منه . ذكره أصحابنا ، القاضي قال - في رواية عبد الله - المحرم إذا أصيد [ ص: 181 ] الصيد من أجله لا يأكله المحرم ; لأنه من أجله صيد ، ويأكله غيره ، ولا بأس أن يأكل المحرم من الصيد الذي لم يصد من أجله إذا صاده حلال .

وقد أخذ بحديث عثمان وفيه : " أنه أمر أصحابه بأكله ولم يأكل هو " وكذلك في الحديث المرفوع إن كان محفوظا ، ولأن قوله صلى الله عليه وسلم : " صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم " دليل على أن المحرم إذا لم يصده ولا صيد له ، فهو حلال وإن صيد لمحرم آخر ; ولأنه إذا لم يصد لهذا المحرم لم يكن له سبب في قتله .

فأما إن كان الصيد لنوع المحرمين مثل أن يكون أهل المياه والأعراب وغيرهم يعدون لحم الصيد لمن يمر بهم من المحرمين يبيعونهم أو يهدون لهم ... ، وكذلك إذا صادوه للرئيس وأصحابه ... .

وإن كانوا قد صادوه ليبيعوه على المحرمين وغيرهم إذا اتفق ، وإنما يتفق غالبا المحرم ، مثل مرارة الضبع التي تشتريه الناس من الأعراب ...

فإذا أكل الصيد من صيد لأجله من المحرمين وجب عليه الجزاء كما لو أعان على قتله بدلالة أو إشارة ; لأن هذا الأكل إتلاف ممنوع منه لحق الإحرام .

[ ص: 182 ] فضمنه بالجزاء كما لو قتله ، بخلاف أكل لحم الصيد الذي قتله ، فإن ذاك إنما يحرم لكونه ميتة .

فإن أتلف الصيد الذي صيد لأجله بإحراق ونحوه بإذن ربه ففيه وجهان :

أحدهما : يضمنه كالأكل .

والثاني : وهو أظهر ، لا يضمنه ; لأنه لم ينتفع على الوجه الذي قصد لأجله ، وهو نفسه ليس بصيد محترم ، فأشبه ما لو حرق الطيب ولم يتطيب به ، وهذا لأنه إذا أكله فكأنه قد أعان على قتله بموافقة قصد الصائد ، فيصير ذلك ذريعة إلى قتل الصيد بسبب المحرمين .

أما إذا أحرقه فليس ذلك مقصود الصائد ، وسائر وجوه الانتفاع من اللبس والتداوي ونحو ذلك ، مثل الأكل ، وما لا منفعة أصلا مثل الإحراق .

التالي السابق


الخدمات العلمية